عملية هلسنكي" الشرق الاوسط"
جهينة نيوز -د. جواد العناني
يعتقد كثير من جمهرة الناس، وكثير من المختصين،أن قضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (أو المشرق) تزداد مع مرور الوقت تعقيدا،ويصعب معها إيجاد حلول ناجعة.وقد إثبتت هذه القضايا أنها عصية على الحلول الناجزة، والترتيبات السياسية.بل هي نزاعات لها ديناميتها،وكأنها أشبه بشجرة خبيثة،تمتد جذورها إلى أعماق تجعل إنهاءها واجتثاثها صعبا ومعقدا. ولعل القضية المركزية الأساسية في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا (الوانا) كما يسميها سمو الأمير الحسن بن طلال،أو"المينا"كما اصطُلح على تسميتها خاصة إبان المفاوضات العربية-الإسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي، هي بالطبع القضية الفلسطينية،والتي اكتسبت مع الوقت مسميات وعناوين كثيرة مثل الصراع العربي- الإسرائيلي، النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والتي تعكس مواقف مُستخدم هذه المصطلحات من فهمه للقضية أو رؤيته لحلها.
وقد مرت هذه القضية بتقلبات على منحنى السلام والحرب؛ فتارة ينخفض الأمل بأي حل وفي حالات أقل ترى مؤشر الأمل يصعد،كما حصل خلال الأعوام 1991-1994.ولكن منذ أن خاب الأمل في تسوية جديدة بين سوريا وإسرائيل،وتحولت الحدود اللبنانية الإسرائيلية إلى حرب،بدأ الأمل يخفت،وأدى اغتيال اسحق رابين وفشل شمعون بيريز وحزب العمل و فوز حزب الليكود بقيادة بنيامين نتانياهو إلى تولي السلطة معتمدا على الأصوات المعارضة لاستمرار عملية السلام في اسرائيل والمستعمرين الراغبين في التمدد داخل القدس وباقي أراضي الضفة الغربية والجولان إلى تضاؤل الأمل بالحل. ولما عاد حزب العمل بقيادة ايهود باراك إلى الحكم،وبذل الرئيس بيل كلينتون آخر محاولة في "الواي ريفر"لإنقاذ العملية، لكن مدته انقضت وفشل في تحقيق الإنجاز الذي كان يطمح إليه رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبون.وبعودة أرييل شارون،الذي انسحب من غزة،ومن ثم عودة نتانياهو إلى الحكم معلقا بأنشوطة الأحزاب الدينية في التآلف الذي توصل إليه، فقد فشلت كل المحاولات لإنقاذ القضية،خاصة عندما يقول أيهود المرت أنه كان فرصة حقيقية أفشلتها القيادة الفلسطينية. والسرد التاريخي كما جرى يؤكد أن الحل السلمي في المنطقة له دوراته وانتكاساته،فإن صعد الأمل بالحل لفترة وجيزة،تراه ينهار إلى هوة أكثر عمقا وأكثر اتساعا من سابقتها.ومما يجعل هذه القضية أصعب حلاً عدة أسباب أهمها وأخطرها هو انقسام الرأي العام داخل اسرائيل حول الحل،علمًا أن الأغلبية الكبرى ترى أن الحل هو ما يقبل به الجانب العربي،وليس ما يعيد إليه حقوقه. كذلك أدى الانقسام داخل الصف الفلسطيني والانشقاق إلى تكوين مراكز سياسية لا يرضى الطرفان الأساسيان في رام االله وغزة أن يتنازلا عنها
ومما يزيد الصورة تعقيدا،أن الدول العربية نفسها والتي ركزت كثير من مؤتمرات قممها على القضية الفلسطينية، كونت مواقف متباينة منها،ومن هذه المواقف على سبيل المثال لا الحصر التناقض الذي يدور حول ما يسمى بصفقة القرن. وباستثناء الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية وحركة حماس،فإن باقي العرب إما مؤيد لها أو بصيغة معدلة لها تبقى الثوابت فيها على حالها،أو أنه ساكت لا ينبس ببنت شفة ليعلن موقفه منها.ولعل التفسير الوحيد لهذا الصمت هو ترك القضية للفلسطينيين وحدهم لكي يتحملوا تبعات القرار الذي سيتخذونه سواء كان بالرفض أم بالأيجاب. وفي كل الانقسام الفلسطيني،والانقسام العربي،ترى إسرائيل أن أمامها فرصة تاريخية
لفرض الأمر الواقع وهضم أكبر ما يمكن أن تبتلعه. ويؤيدها في ذلك الظروف السائدة دوليا وعربيا.ويقول السياسيون الاسرائيليون، وحتى الداعي فيهم إلى حل ترضى به الأطراف كلها،أن الواقع الذي تمركز على الأرض لا يمكن تغييره. وحتى قيام الإدارة الأميركية بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس واعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يرتبط بفكرة الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين.وقد قاومت كثير من الدول الأوروبية فكرة نقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.إلا أن هيمنة الدور الأميركي أثبت أن هذا الموقف الأردني يبقى هشًا أمام الضغوط التي يبذلها اللوبي الداعم لإسرائيل، وعناد المحافظين الجدد الداعمين للرئيس ترمب لعودة اليهود إلى "أرض الميعاد" والقدس عاصمتها. وبتصريحات الرئاسة الفلسطينية الرافضة حتى لدور أميركي كوسيط نزيه،أصبحت الساحة خالية تمامًا من جهود حقيقية تعيد السلام إلى أرض السلام،ما يبقى المنطقة في حالة طوارئ وحرب دائمة،يجعل هذه البقعة الاستراتيجية من العالم عرضة للهزات والتقلبات. ولكن لكل قوة لها وزنها في العالم مصلحةاستراتيجية في منطقة (الوانا). فالروس وجدوا ضالتهم للعودة إلى المنطقة عن طريق ارسال قوات داعمة للنظام في سوريا وبحجة أن الجهد العسكري الذي تقدمه ليس دعما للنظام فحسب، ولكن من أجل محاربة التطرف والارهاب.والدول الأوروبية،وما صنعته الهجرة من تغييرات جذرية في الانتخابات والحكومات والتآلفات والأحزاب،فإنها بحاجة إلى استعادة توازنها وتآلفها لحل مشكلة الهجرة من جذورها.أما الصين التي استثمرت في دول المنطقة وتعد العدة لمشروعها الدولي الجبار (طريق الحرير الجديد) والذي ستكون طرقه البرية والبحرية ممايزة لمنطقة (الوانا) التي تشكل جزءًا أساسيًا منه.وهنالك بالطبع قوى إقليمية أخرى ترى في منطقة (الوانا) مستقبلا لها مثل تركيا وإيران اللتين أصبحتا جزءا مهما من مستقبل المنطقة ولا يمكن إغفالهما.وينوي منتدى الفكر العربي عقد مؤتمر للمكونات الأربع في المنطقة وهم العرب والأتراك والإيرانيون والأكراد،بحثًا عن الجوامع المشتركة بينهم لبناء مستقبل قائم على التفاهم والتبادل بدلا من التناحر والتنافر. في ظل هذه الأوضاع،لا يمكن أن يبقى مستقبل المنطقة مرهوناً بترتيبات آنية خاضعة لموازين القوى المتقلبة من فترة الى أخرى.هذه الحالة الراهنة هي التي تغذي الخلافات وتزيدها لهيباً واستعارًا،اذن لا بد من البحث في حلول أوسع. ولقد لفت نظري خطاب ألقاه سمو الأميرالحسن بن طلال في اجتماع لمجموعة هلسنكي حول العولمة والديمقراطية في نيويورك يوم 2005/5/27،والذي تحدث فيه عن ضرورة قيام
هذه المجموعة بالبحث في خمس حزم من القضايا إذا كانوا بالفعل يسعون إلى عولمة صحيحة وديمقراطية داخل الدول. وهذه الحزم هي السلام والأمن حيث يجب توسيع مفهوم الأمن من التعريف العسكري والبوليسي إلى مفهوم شامل ضامن لأمن الإنسان الاجتماعي والحياتي وضمان كرامة بني البشر. أما الحزمة الثانية فقد بحثت في موضوع الفقر والتنمية مؤكداً سموه على أن الإنفاق العسكري يفوق بمراحل الإنفاق الصحي والاجتماعي في العالم. وقال طالما أننا ننفق على السلاح أكثر بكثير مما ننفق على التعليم والصحة والثقافة، فإن الفقر سيبقى في نمو والبطالة ستزداد انتشاراً واتساعاً. أما الحزمة الثالثة فقد كانت حقوق الإنسان وضرورة تكريسها للوصول إلى سياسة جامعة وإصلاحات ديمقراطية رئيسية.وأما الحزمة الرابعة فهي الحوكمة (الحكم الرشيد) وضرورة محاربة الفساد،وتعزيز الشفافية والمحاسبية. وأما الحزمة الخامسة والأخيرة فهي البيئة وضرورة الوصول الى تقاسم عمودي للثروة بين الجيل الحالي والأجيال القادمة. هذه السلال أو الحزم الخمس يمكن إعادة تبويبها لتتناسب مع المنطقة،ونحن الآن في منطقة (وانا) نمر بسباقات حازمة نحو المستقبل لكل مكوناتها الديمغرافية والإثنية وبكل أبعادها الإنسانية. فهنالك سباق كبير مع الزمن لكي نتوصل الى اتفاق سلمي شامل أو نبقى في حالة اصطدام وتنابز دائمتين تؤدي الى وأد مستقبل المنطقة وترك مصيرها مفتوحاً على كل احتمالات الدمار والصراعات الدولية. وبالطبع لا ننسى السباق بين الزيادة السكانية والتغيرات الديمغرافية والهجرات القسرية وتدهور حياة البشر من ناحية وتجنيد الموارد لخدمة الناس وتوفير متطلبات الحياة الكريمة لهم من ناحية أخرى. وهنالك السباق المحموم بين الحاجة لإصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية عميقة،وبين إدراك أصحاب السلطة وأولياء الأمور أن ذلك الإصلاح هو السبيل الأنجع للحفاظ على مراكزهم السياسية،مما يفتح الباب أمام الاصلاح ليسير بطريقة ناعمة قائمة على الحوار
والتطور التدريجي بدلاً من الاحتجاجات الشعبية والثورات وغيرها من وسائل العنف والتشويش. وهنالك السباق المحموم بين تراجع الموارد الأساسية كالماء والهواء والرقعة الزراعية من ناحية،وضرورة اجتراح الوسائل للتقليل من التدهور المنتظم لهذه الموارد،وجعل ندرتها في المستقبل بذور شر للحروب والصراعات المحتدمة. ولهذا، يصبح من الضروري التفكير الشمولي الذي يجمع كل الأطراف المعنية ضمن منظومة متفق عليها،وأجندة مقبولة،وأسلوب تفاعل بين الأطراف قائم على قواعد واضحة للجميع،وضمان الإطار التنفيذي لكل المقترحات التي يجري التوافق عليها. وهذه هي المنطقية التي بنيت عليها ما سميّ عام 1972" بعملية هلسنكي" لاحتواء الحرب الباردة في العالم.ومع استمرار العملية نتج عنها ما سميّ بعد ذلك"باتفاقات هلسنكي"التي وثقت الترابط بين الأمن والسلام من ناحية وحقوق الانسان من ناحية أخرى. وهنا يأتي الرابط بين ما نادى به سمو الأمير الحسن بن طلال عام 2005 وما اقترحه الأمين العام للأمم المتحدة السيد"غوتيريس"في ملاحظاته التي قدمها لمجلس الأمن بنيويورك يوم الخامس والعشرين من شهر حزيران (يونيو) الماضي حول الأمن والسلام مع تركيز خاص حول الوضعية في منطقة الشرق الأوسط. ولقد قدم الأمين العام شرحاً للأوضاع الأمنية والعسكرية،والأوضاع الاقتصادية والإنسانية في المنطقة،مستعرضاً اياها في مناطق الصراع مثل سوريا،واليمن،وليبيا،وبالأخص في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولذلك،فقد اقترح على أعضاء مجلس الأمن أن الضرورة باتت تقتضي وضع آلية شمولية لحل هذه القضايا بإنهاء حالة الحرب،ووضع آليات للتعاون في المجالات الاقتصادية والتنمية وحقوق الإنسان والديمقراطية. وقد رأيت في هذه الفكرة فوائد كثيرة من أهمها تخليص عمليات التفاوض لإنهاء حالة الحرب في المنطقة من هيمنة القوى الدولية على هذه القضية أو تلك. وجعل القرار مرتبطاً بحل تفاوضي منطقي معقول يحقق مصالح الأطراف في المنطقة،ويضع القواعد لسلام دائم،ويضمن الحقوق الأساسية لمختلف مكونات المنطقة وبلدناها،ويجعل المنطقة مفتوحة الأبواب على الحوار المباشرالمفتوح بدلاً من الحديث في الغرف المغلقة. ونحن بحاجة الى دولة محايدة لكي تتبنى هذا القرار وتدفع به.عندما تبنت فنلندا
فكرة"عملية هلسنكي"قابلتها كل الأطراف بعين الاستخفاف والرفض،ولكن سرعان ما وجدت نفس الأطراف بعد عدد من السنوات أن هذا الاقتراح يمثل وسيلة فعالة مقبولة لها. اذا استطعنا أن نقدم هذا التصور ليكون مقبولاً للجهات المختلفة،فإننا سوف نجد مخرجاً كريماً من مقتر "صفقة القرن"بنظرته الضيقة،ويضع العالم كله أمام مسؤولياته ويجبره على الإفصاح عن مواقفه الحقيقة.