التحول من "المدن الذكية" الى "المدن الإدراكية" حقبة جديدة من التخطيط الحضري
جهينة نيوز -صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية
مع تسارع التطورات التكنولوجية حول العالم، ظهرت "المدن الإدراكية Cognitive city" كخطوة ثورية في تصميم المدن، حيث تجمع بين "الابتكار التكنولوجي" و"التركيز على الإنسان" لتلبية احتياجات الحاضر والمستقبل. وكما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "المستقبل ليس شيئًا ننتظره، بل شيئًا نصنعه بأيدينا اليوم."، فإن "المدن الإدراكية" تجسد هذا المفهوم من خلال بيئة حضرية متقدمة قادرة على التعلم والتكيف والتفاعل بذكاء مع سكانها.
المدن الإدراكية ليست مجرد مدن ذكية تعتمد على التكنولوجيا لتقديم الخدمات، بل تتسم "بذكاء تكيفي" يجعلها قادرة على جمع وتحليل البيانات بشكل مستمر لفهم احتياجات السكان وتطوير حلول مخصصة وديناميكية. من خلال تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، تتحول المدن الإدراكية إلى "كيان حي يتفاعل بذكاء مع كل جانب من جوانب الحياة اليومية"، مما يعزز جودة الحياة ويحقق الاستدامة بكفاءة غير مسبوقة.
ما يميز المدن الإدراكية هو قدرتها على "التركيز على الإنسان" كجوهر التصميم الحضري. فبدلاً من تقديم "خدمات عامة موحدة"، تقدم هذه المدن "حلولًا مخصصة لكل فرد"، مع الأخذ بعين الاعتبار رفاهيته النفسية والاجتماعية. تتعلم المدينة الإدراكية من سلوكيات السكان وأنماط حياتهم، وتستخدم هذه المعرفة لتصميم بيئة حضرية متكاملة تهدف إلى تحقيق راحة الإنسان وسعادته.
هذه المدن تعتمد على خصائص أساسية تجعلها فريدة في التخطيط والتنفيذ. أولًا، يتمثل الذكاء التكيفي في قدرتها على استخدام تقنيات تعلم الآلة لتحليل البيانات الضخمة واتخاذ قرارات استباقية مبنية على أنماط السلوك. ثانيًا، تركز على الإنسان من خلال تصميم خدمات حضرية تعزز الراحة النفسية والاجتماعية للسكان، مثل الحدائق العامة الذكية والمساحات الحضرية المستدامة. ثالثًا، تتميز هذه المدن باستدامة متكاملة تقلل من الانبعاثات الكربونية وتدير الموارد بكفاءة عالية، مما يجعلها نموذجًا حقيقيًا للمدن الصديقة للبيئة.
ولأن المدن الإدراكية تعتمد على التفاعل الفوري، فإن أنظمتها قادرة على الاستجابة بسرعة لأي تغيرات، مثل ازدحام المرور أو انقطاع الخدمات. كما تستخدم التحليل التنبؤي للتعرف على التحديات المحتملة، مثل الكوارث الطبيعية أو الأزمات الصحية، مما يمكنها من اتخاذ تدابير استباقية تحمي السكان وتحافظ على استمرارية الحياة اليومية.
في مدن مثل "شنجن" الصينية و"دبي" الإماراتية، نجد أمثلة حية على هذا النموذج الحضري المتقدم. شنجن، التي تُعرف "بوادي السيليكون الصيني"، تعتمد على أنظمة ذكية لإدارة المرور باستخدام الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الابتكار في مجالات الطاقة المستدامة. أما دبي، فتسعى لتحويل رؤيتها إلى واقع ملموس من خلال مشاريع مثل حكومة بلا ورق، ومدينة محمد بن راشد الذكية، واستراتيجية الطاقة النظيفة 2050. كذلك، يُعد مشروع نيوم في المملكة العربية السعودية أحد أكثر المشاريع طموحًا في هذا المجال، حيث يهدف إلى بناء مدينة إدراكية بالكامل تعتمد على التكنولوجيا الذكية والاستدامة.
ومع ذلك، تواجه المدن الإدراكية تحديات عديدة، منها التكلفة العالية لبناء البنية التحتية التقنية اللازمة، وحماية الخصوصية في ظل جمع وتحليل كميات كبيرة من البيانات الشخصية للسكان. كما أن التكيف الثقافي يمثل تحديًا آخر، حيث يجب أن تضمن هذه المدن أن تكون التكنولوجيا متوافقة مع ثقافة السكان المحليين واحتياجاتهم.
البروفيسور يوسف العساف، رئيس جامعة روشستر الأمريكية في دبي، بالتعاون مع زملائه باس بورسما ورافائيل جاريري، نجح في تطوير أداة مبتكرة لتقييم المدن الذكية. وقد أظهر فريقهم تميزًا من خلال تقديم نتائج تقييم شامل لمدينة جنوة الإيطالية، باستخدام نظام تقييم فريد مستند إلى أفكار ومبادئ واردة في كتابهم "عهد رقمي جديد".
هذا التقييم لم يكن مجرد دراسة نظرية، بل أفضى إلى نتائج عملية ملموسة، حيث وافق قادة مدينة "جنوة" على اعتماد خطة التطوير المستقبلية التي اقترحها التقييم. يعكس ذلك أهمية وفعالية هذه الأداة في تحليل المدن الذكية وتقديم حلول استراتيجية تدعم كفاءة المدن واستدامتها، مما يعزز من قدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية.
بالنظر إلى الخبرة المتميزة التي يتمتع بها البروفيسور يوسف العساف وفريقه، فإن التعاون معهم يمثل فرصة ذهبية لأمانة عمان. هذا التعاون يمكن أن يساهم في تقديم تقييم شامل ومتكامل لمدينة عمان، يُسهم في وضع خارطة طريق لتحويلها إلى مدينة إدراكية تعتمد على الذكاء التكيفي والتكنولوجيا الحديثة. مثل هذا التحول يعزز قدرة عمان على مواجهة التحديات المستقبلية، مع تحقيق أهدافها التنموية وتعزيز جودة الحياة لسكانها.
من خلال الاستفادة من نظام التقييم المطور، يمكن لأمانة عمان:
* تحليل واقع المدينة الحالي، بما يشمل البنية التحتية، الخدمات، والموارد.
* تحديد نقاط القوة والفرص، مع تقديم حلول مبتكرة لتعزيز الكفاءة.
* وضع توصيات عملية، لتحسين العمليات والخدمات وجعلها أكثر مرونة واستدامة.
التواصل مع البروفيسور العساف وفريقه يمكن أن يكون خطوة رائدة لتحويل عمان إلى نموذج يُحتذى به في التحول إلى "مدينة إدراكية مستدامة"، تستثمر في الذكاء التكيفي والتكنولوجيا لتحسين الحياة اليومية لسكانها.
أخيرًا، تمثل المدن الإدراكية رؤية طموحة لمستقبل التخطيط الحضري العالمي، حيث يتم دمج الابتكار التكنولوجي مع التركيز على الإنسان والاستدامة. هذه المدن ليست مجرد تجمعات حضرية، بل "كيانات حية تفكر، تتعلم، وتتطور" لتصنع مستقبلًا أفضل للجميع.
تحويل "عمان إلى مدينة إدراكية" ليس مجرد حلم بعيد المنال، بل هو فرصة حقيقية لتحقيق قفزة نوعية وفق منهجية (10X)، بحيث لا يقتصر الهدف على مواكبة تطلعات المستقبل، بل لتكون عمان من المدن الرائدة التي تسبق غيرها.
هذا الطموح يحتاج إلى استشراف ورؤية استراتيجية جريئة، تعاون مع خبراء دوليين، وابتكار حلول مستدامة تُعزز من مكانة "عمان" كمدينة نموذجية تتبنى الفكر الإدراكي، لتصبح أيقونة حضرية تفتح الباب أمام مستقبل أكثر ذكاءً وازدهارًا.
"فلادلفيا"، المدينة التي تحمل عبق التاريخ والإرث الحضاري، تستحق أن تكون ذلك النموذج الملهم. بتحويلها إلى مدينة إدراكية، يمكن لعمان أن تعيد تعريف العلاقة بين التكنولوجيا، الإنسان، والاستدامة، لتقدم للعالم نموذجًا يحتذى به في التخطيط الحضري الحديث، حيث تلتقي الأصالة مع الحداثة لصنع مستقبل أفضل.