هل الجزية تنطبق على العرب المسيحيين؟
هل الجزية تنطبق على العرب المسيحيين؟
د.أيوب أبودية
يمتعض العرب المسيحيون من فكرة أنهم يُدعون أهل ذمة في بعض الأوساط السلفية التقليدية، وأن عليهم دفع الجزية، وبالمقابل يُعفون من القتال دفاعا عن الأوطان. ما لا يعرفه هؤلاء أنه أتُفق تاريخيا أن العرب النصارى لا يدفعون الجزية، فحالهم حال المسلمين في علاقتهم ببيت المال، وذلك منذ عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب، فضلا عن أنهم لا يتقاعسون في القتال دفاعا عن أوطانهم، بل يرغبون أن يكونوا في المقدمة، كما كان عيسى العوام إلى جانب صلاح الدين الأيوبي يحارب الفرنجة، وكما استشهد جول يوسف جمّال دفاعا عن بلاد العرب، وكما ناضل الحكيم جورج حبش ونايف حواتمة في مقاومة الصهيونية دفاعا عن فلسطين العربية.
إن مرونة الإسلام في التعامل مع الجزية والخراج والصّدقة والزكاة واضحة في تاريخ العرب والاسلام منذ الخلفاء الراشدين. ولطالما أثار نظام الجزية والخراج في الإسلام نقاشاً واسعاً بين الفقهاء والمفكرين على مر العصور، وذلك بسبب طبيعته المتغيرة التي تتيح مرونة في التعامل مع مختلف الحالات والظروف والأزمان لتحقيق العدل، والحفاظ على وحدة العرب وتماسكهم.
وفيما يتعلق بالجزية والخراج، نجد في التاريخ الإسلامي تطبيقات متعددة لهذه الأنظمة، تراعي طبيعة الشعوب المختلفة، سواء كانوا من أهل الكتاب من العجم، أو من اليهود في الجزيرة العربية، أو الصابئة، أو من غير المسلمين من العرب، وخاصة العرب منهم.
في الفقه الإسلامي، الجزية هي مبلغ مالي يُفرض على أهل الكتاب وغير المسلمين الذين يعيشون تحت حكم الدولة الإسلامية مقابل حمايتهم وإعفائهم من الخدمة العسكرية. والصدقة هي الحصة المقدرة من المال التي فرضها الله للمستحقين من المسلمين، كما ورد في الآية 103 من سورة التوبة: "خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، فقد فرض الله على المسلمين الصدقة وجعل الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام، ولا تؤخذ من غير المسلمين. ولكن، هل كان هناك من استثناءات في التاريخ العربي الاسلامي، وخاصة في فجر الاسلام؟
ورد في الكثير من كتب أمهات التراث التي سوف نأتي على ذكرها ههنا، مثل كتاب "الخراج" للإمام أبي يوسف الأنصاري، و"أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزية، وكتاب "الأموال" لقاسم بن سلام، أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعامل بمرونة مع "بني تغلب" من العرب النصارى الذين أنفوا الجزية، بمعنى أنهم شعروا بأن فرضها عليهم يذلهم ويعاملهم كالأمم المهزومة، حيث أخذ الخليفة منهم الصدقة بدلًا من الخراج، نظرًا لكونهم من القبائل العربية التي رفضت دفع الجزية .
كانت قبيلة تغلب العربية على دين المسيحية عند انبلاج فجر الاسلام وسكنوا في الأصل الجزيرة العربية، ثم انتقلوا في موجات هجرات متتالية شمالًا إلى العراق ووسط الجزيرة الفراتية، أي ما يعرف بديار ربيعة، وكانت غالبية التغلبيين من النصارى، وحاربوا مع المسلمين ضد الفرس والبيزنطيين. ومن الجدير بالذكر أن منازل تغلب كانت فيما بين أنهار الخابور والفرات ودجلة وتكريت جنوباً، وتعرف هذه المنطقة بديار ربيعة. ولكن لا يوجد من الأخبار ما يكفي لمعرفة مواطن بني تغلب على وجه الدقة قبل استقرارها في شمالي بلاد الشام، ولكنها حتما جاورت بلاد بكر بن وائل في منازلها.
تتناول العديد من الكتب الفقهية هذه المسائل بالتفصيل، منها كتاب "الخراج" للإمام أبي يوسف الأنصاري، وكتاب "أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزية، وكتاب "الأموال" لقاسم بن سلام. هذه المصادر تقدم تفصيلات واسعة عن الجزية والخراج، وتظهر كيف كان الإسلام مرناً في تعامله مع المسائل المالية في الدولة الإسلامية، ومع رعاياه من غير المسلمين، وخاصة العرب منهم.
فمثلا، كتاب الخراج للأنصاري (توفي 798 ميلادية)، وهو الإمام أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي البغدادي، المعروف بأبي يوسف، من تلامذة الإمام أبي حنيفة النعمان. ويُلقّب بالأنصاري، لأنّه عربي أنصاري من الكوفة، حيث ولد وتتلمذ على أبي حنيفة النعمان، وغيره 1.
ويأتي الكتاب بأقاويل وأحاديث مختلفة تتعلّق بالجزية والخراج والصّدقة، ويُظهر مرونة الإسلام في التعامل مع الحالات المختلفة، فيقول، وعلى سبيل المثال:
" فأمّا أهل الكتاب من العرب فهم بمنزلة الأعاجم تُقبل منهم الجزية، كما أضعف عمر رضي الله عنه عن بني تغلب الصدقة عوضاً من الخراج ... أمّا العجم فتقبل الجزية من أهل الكتاب منهم والمشركين وعبدة الأوثان والنيران من الرجال منهم ... ولا يُقبل من أهل الردّة من العرب والعجم إلا الإسلام أو القتل ولا توضع عليهم الجزية، وحكمهم حكم عبدة الأوثان من العرب الذين ليس أمامهم خيار، إمّا الإسلام أو القتل"2.
ويوضح ذلك أن الاسلام لم يهادن المشركين من العرب، إنما كان له معاملة خاصة مع أهل الكتاب، وخاصة مع العرب منهم.
وجاء في كتاب "الأموال" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 837 ميلادية) عن داود بن كردوس، قال: "صالحت عمر بن الخطاب عن بني تغلب على ألا ... يُكرهوا على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العُشر مضاعفا، ... فكان داود يقول: ليس لبني تغلب ذمة..." (السند: حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحق الشيباني، عن السفّاح...)3.
وعن زُرعة بن النعمان، قال: " يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب عرب يأنفون من الجزية، ... فلا تُعن عدوك عليك بهم،...فصالحهم عمر بن الخطاب، على أن أضعف عليهم الصدقة،..."4 (السند: قال: وحدثني سعيد بن سليمان، عن هشيم، قال: أخبري مغيرة عن السفّاح بن المثنى...).
وقال أبو عبيد: "وهكذا ما يؤخذ من بني تغلب، وهو الضعف على صدقة المسلمين، ...يحدث بذلك الحديث عن عمر يقول: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن الله سبحانه تعالى سيُمنّعُ الدين بنصارى من ربيعة على شاطىء الفرات. ما تركت عربيا إلا قتلته أو يسلم"5 (السند: سعيد بن عمر، عن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن جده...).
ولكن هناك أقوال مغايرة تدّعي أن الاتفاق مع بني ربيعة تضمن شرط ألا يُنصّروا أبناءهم، وبما أنهم فعلوا ذلك، فإن المسلمين باتوا في حل من ذلك العقد. ورغم ذلك ففي كتاب ابن قيّم الجوزية (ت 1350ميلادية): "أحكام أهل الذمة"، يقول:
رغم أنه في سنن ابي داود من حديث ابراهيم بن مهاجر عن زياد بن حدير، قال: قال علي:
"لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة، ولأسبين الذرّية، فإني كتبت الكتاب بينهم وبين النبي ألا ينصّروا أبناءهم". لكن، قال أبو داود: "هذا حديث مُنكر، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان يُنكر هذا الحديث إنكارا شديدا" 6.
وفيما يتعلق بالخراج، فإن الفقه الإسلامي كان حريصاً على توزيع العبء المالي بين الفئات المختلفة. ويُعدّ الخراج من الضرائب التي تُفرض على الأراضي الزراعية التي يمتلكها غير المسلمين في الدولة الإسلامية. وقد يُستبدل الخراج بالصدقة في بعض الحالات، كما حدث مع بني تغلب، حيث تم قبول الصدقة منهم بدلاً من الجزية نظرًا لرفضهم دفعها. وقد أشار إلى ذلك ابن قيم الجوزية في كتابه "أحكام أهل الذمة" حيث شدد على أن تطبيق هذه الأحكام يخضع لاعتبارات سياسية واقتصادية، مما يتيح للدولة الإسلامية مرونة في التعامل مع الظروف المختلفة .
فمن خلال استعراض هذه النصوص، يمكننا أن نستنتج أن نظام الجزية والخراج والصدقة في الإسلام يتسم بالمرونة والتكيف مع طبيعة المجتمعات المختلفة. فلم يكن الهدف من هذه الأنظمة المالية إثقال كاهل المسلمين أو غير المسلمين، ولم يكن معدا لاستثارة غضب الرعية، بل كان جزءاً من نظام شامل يهدف إلى تحقيق التوازن الاقتصادي ووحدة العرب وتحقيق العدالة الاجتماعية في الدولة الإسلامية لجميع مواطنيها. إذ تعكس هذه المرونة قدرة الإسلام على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، مع الحفاظ على مبادئه الأساسية في العدل وحماية الحقوق العامة. وهذا ما نطمح إليه في العالم العربي والاسلامي اليوم.
المصادر والمراجع:
1- أيوب أبودية، موسوعة ملخصات أمهات كتب التراث، مراجعة وتحرير همام غصيب، وزارة الثقافة الأردنية، 2024.
2- يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الخَراج، بيروت: دار المعرفة، 1979، ص 120-122.
3- أبو عبيد القاسم ابن سلام، الأموال؛ تحقيق محمد عمارة، الطبعة الأولى، دار الشروق، 1989، ص 101.
4- أبو عبيد القاسم ابن سلام، الأموال؛ م.ن، ص 102.
5- أبو عبيد القاسم ابن سلام، الأموال؛ م.ن، ص 647.
6- ابن قيّم الجوزية، أحكام أهل الذمة؛ تحقيق يوسف البكري وشاكر العاروري، رمادي للنشر، 1997، ثلاثة مجلدات، ص206-207 .