علي الزعتري يكتب :تفليت العقال
جهينة نيوز -تفليت العقال
حقيقةً مفجعةً أن ينكشفَ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن دعم بلادهِ للشواذ من كل الأنواع و بكل ما تملكه الامبراطورية الأمريكية من قوة. و أن تفتخر الدولةٌ الأوروبية لاتڤيا بأن رئيسها المنتخب شاذ وأن تظهر أمامنا ببيوتنا مشاهد تلفازية عن الشذوذ وتنقله لنا بالتحبيب و الإقناع، و أن يندفع للشارع قطعانهم بفلسطين المحتلة تكريساً لانتهاك كل المحرمات و في تركيا الإسلامية لا يخشون الخروج رغم تقييدهم عن حَدٍّ ترسمه الشرطة و هم محتفيين بأشكالهم و أنواعهم الخارجة من رَحمِ الشيطان، و أن نرى بمجتمعاتنا تلطيفاً و ترطيباً و انحيازاً للشذوذ بمكان عمل و في العموم. في زمانٍ قريبٍ كان الشذوذ عيباً ملاحقاً مخفياً و مستوراً كما كانت قبله بأزمانٍ فواحش مختلفة فصرنا نعتبرها واقع الحال و لو كرهناها. و كذا الشذوذ الذي اليوم يظهر ليهاجم ويستقوي بالسياسة والإعلام و القوانين بفضل انفلات العقل و العقال. العاقلُ يعلم أنهُ هكذا تبدأ نهاية الأمم، بتحليل حرام و تعطيلِ حلال. كل حرام و كل حلال. و الحل و الربط اليوم هو بيد الحكومات فالأفراد مهما فعلوا لصونِ محيطهم لن يستطيعوا مواجهةَ الطوفان الآتي لوحدهم.
لا نعيشُ في الماضي لكنهُ في بعضِ بُنيتهِ التي نتبعها لهوَ أَثَرٌ مُقَدَّسٌ من المستحيل أن نلتفتَ عنهُ. بل أنَّ الماضي بِأَثَرِهِ المتصل، ما هو مُقَدَّسٌ و ما هو دُنيويٌ، هو الذي يرسمُ يومنا في الحياةِ و مماتنا. الدينُ أساساً هو من الماضي المُقَدَّس و هو كذلك في الحاضرِ و المستقبل و لا مهرب منه مهما حاول إنسانٌ. فحتى لو انفلتَ الإنسانُ من دينهِ في حياتهِ فعلى الأغلب أنهُ سينتهي رغم انفلاتهِ حسبما يقولُ الدينُ لمماتهِ من تغسيلٍ و كفنٍ و صلاةٍ و دفن. أقاصيصَ الماضي تعيشُ معنا سواء كانت من النوعِ الكوني كالطوفان أو من النوع اللحظي كما كان جَدُّنا فُلانٌ و صديقنا عِلاَّنٌ يعمل و يقول.
الماضي هو التاريخُ و هو نوعين، حَسَنٌ نحبُ أن نتذكرهُ، و شائنٌ يطاردنا و نريدُ دفنه. الماضي الحسن هو مادةٌ ثريةٌ تزيحُ من طريقنا و تغطي على الماضي الشائن الذي تجبرنا كراهيتهُ علي محاولةَ نسيانهُ بل و تزييفهُ و تحريفهُ لتجهيلِ الناس و توجيههم بما يخدم السلطة المُزَيِّفَةَ. و الأَحقَّ و الأصوبَ هو اتخاذهُ كما هو عِبرةً ندرسها لتلافي حدوث مآسيهِ الماضية في حاضرٍ و مستقبلٍ، و هو ما لا تفعلهُ معظم الناس و السلطات إلا ما ندرَ، و يقومُ به القرآنُ الكريمُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ تنبيهاً و ترغيباً في وصف الماضي و الحاضر و ما بعد الدنيا. قليلٌ من يعتبر فالإنسانُ بطبيعتهِ ظَلومٌ جَهولٌ كما وصفهُ تعالى عندما قَبِلَ هذا الإنسان أن يحملَ الأمانة. تسألَ ما هي الأمانة؟ هي بقاء الناسِ قابلين أوامرَهُ و نواهيه حافظينَ لنعمةِ الله ناشرينَ للخير و مقاومين للفواحش. لكننا منذ بدء الخليقةِ نخونُ الأمانة و نسوقُ أنفسنا للشر بأشكالهِ الصغيرة و الكبيرة. مَنْ يُذنبْ فيخافَ، يستغفرُ و يتوب، و من يذنبُ و لا يخاف يستمرأُ المعصية و لا يسألُ عن استغفارٍ و توبةٍ. هذه هي طبيعة البشر و المهم هو رجحان كَفَّةَ الحسنات في الميزان و لن نعرفَ هذا إلا متأخراً. عندها يقولُ الإنسانُ لربِّهِ "ارجعني" و يتوسل التأخيرَ و لكن لا رجوع. لكننا نعلمُ أَنَّهُ لا يوجد إنسانٌ لا يخطأ فكل ابن آدم خطَّاء و خيرُ الخطائين التوابين. دورةَ الحياة للإنسان أن يحيىٰ ما أمْكَنَ نظيفَ اليدِ و الفؤادِ و أن يستعينَ على تحقيقِ هذا الهدف الصعب بالصبرِ و العلمِ و الاستغفار. الصبرُ على مكابدةِ النوازع و العلمُ بتبعاتها و الاستغفار إن زَلَّ و ارتكبها، و سيرتكبها. غالبيتنا هو من هذا النوع. لكن العقالَ ينفلتُ رغماً عن نوازعِ الخير و معهُ تضعفُ قدرتنا على مقاومة الخطأ و الخطيئة و قد ننهارَ تحت وطأتهما. بهذا لا يُلامُ فقط الإنسان المنفرد الذي يحاول و يخطئ ويتوب بل المجتمع الذي يستمرئ الخطأ والحكومة التي تُدير المجتمع نحوه.
"سنضربُ بِيَدٍ من حديد" هي العبارة الوعدُ للحكومات عند وصفِ تصميمها السيطرة على وضعٍ بات خطراً علي الدولة والسكان. لكن العبارة لا تُستخدم بنفس التصميم لضبطِ اختلال الأمنِ الأخلاقي الذي يتفاوت التعامل معه و يُعطىٰ من الحرية ما لا يُعطى لغيره. تقولَ إنْ نلجأَ لأدبياتِ الأخلاقِ التي سادت في عصورِ الفضيلة فإننا واهمون لأننا بعيدون جداً عنها و عن ظروفها و لأنَّ الفضيلةَ حتى في ذلك الزمان لم تكن كاملةً. القرآن تحدث عن المعاصي بكل وضوحٍ و توجيهٍ و الرسولُ عليهِ الصلاةُ و السلام بين ظهراني الصفوةِ و النخبةِ؛ والنبي لوط عليهِ السلام عاش في قريةِ الفاحشة، فكيفَ نتوقعُ ممن هم أدنى مراتباً أن يستمروا في حمايةِ الفضائل؟ و لذلك عاشت و ستعيشُ المجتمعات في ازدواجيةٍ بين الفضيلة و غريمها لا يقيمُ عمودها إلا الصبر و العلم و الاستغفار و التصحيح و لا يُهيلهُ ركاماً إلا الاستهتار و التجاهل و العناد. و أخشى أن الحكومات التي واجبها المقدس التصحيح تتبنى في هذه المعادلة الطرف الثاني من بابِ التزامها بمبدأٍ منافقٍ لمدىً بعيد باحترامِ الحريات الشخصية و مكانتها بين الدول على حسابِ إحياءِ و إثراءِ عافيتها الأخلاقية، أو هي تبذلَ في حمايةِ هذه العافية من الجهود غير المعقولة لتحويلِ البشرِ بالقوةِ لملائكيةٍ غير بشريةٍ لدرجةِ نبذهم هذه العافيةَ المفروضةَ قسراً و وسمِ بلادهم بالتزمت الجائر. و لا توجد أمامنا تلك الطريق الوسطى التي تجعلنا ننتمي للعالم و نحمي ذاتنا الروحية و التعاملية، بل أننا نختلفُ بشأنها و نحتارَ بين نموذج ملائكيةِ الحياة المستحيلة و إبليسها فترانا نقفزُ من وُجهةٍ لوجهةٍ غيرَ آمنين على قراراتنا. ولعل هذه الحيرةَ هي المطلوبة و ذلك لسهولةِ قيادةِ الحائرين.
المؤسفَ أن حكوماتنا تُنفِقَ لتفليتِ العِقال فتزيدَ من أعدادِ الحائرين و تُحَلًِّلَ كثيرَ الحرام طمعاً بالمالِ و المرتبةِ، و لا تنفقَ بإخلاصٍ لإيجاد الحلول المناسبة لديننا و تقاليدنا. الأمثلةُ من حياتنا كثيرة و لنأخذ مثلاً التلهف على اجتذاب السياحة بينما واقعياً لا توجدُ اليوم سياحةٌ بريئةٌ إلا ما ندر. فلم تأتِ السياحة لشمسنا و شواطئنا و صحارينا والآثار الألفية إلاّٰ بالمتكاثر من الموبقات التي تحْسِبُها الحكومات دخلاً مادياً. أما السياحةَ النظيفةَ فهي يتيمٌ له كل العطف و يبقى يتيماً. و بينما يأتي السائحُ، في الغالب، متوقعاً بل ومُطالباً بامتيازٍ يعتقدِهُ حَقَّهُ ما دام قد صَرَف الجهد و المال، و هو ممارسة حريته مهما عاندت هذه الحرية عادات مجتمعاتنا أو طالتها بالنقيصة، فإن حكوماتنا لأجلِ السائحِ تُوجِدُ الخمورَ والملاهي و شواطئ العُري و تغضُ النظر عن ملامح و مصارِحِ الشذوذ و الانتكاسة الملبسية في الشوارع حتى لمواطنيها. أليسَ كذلك؟ ألا نشاهدَ كل هذا إما بِعَينِ الراضي بالمدنيةِ و الفخرِ بالتحضر، أو الساخط على ما وصلنا له؟ بلى. السياحةَ التي تسعى لها الحكومات و تروجها للناسِ لقبولها و العمل لجعلها مورداً مالياً هي واحِدٌ من أشكالِ البلاءِ الذي لا يمكن تجاهله. نفهم حاجتنا للانفتاحِ علي العالمِ لكننا لا نفهم استباحةً و تقليداً ينتجَ مالاً بقدر ما ينتجَ دماراً مباشراً و غير مباشر للبنيةِ المجتمعية تسجله الإحصائيات الرسمية عن الجرائم و الأمراض.
سنسعدُ أن تقولَ الحكومة أن لديها ميثاق أخلاق يجب أن يُحترم و أننا سنطبقه ببلادنا المنفتحة للزائر الذي يحترمنا أما الذي يريد غير ذلك فليس لنا به حاجةً و لا غايةً. لكن الحكومات، كما نرى، لا يهمها انفلات عقالِ الأخلاقِ إلا لمماً و بما يتناسب و رغبتها الجامحة عدم إيغال صدورِ الحضاريين عليها. بل أنَّ هناك من القوانين المعتبرة التي وجدت مخرجاً للمظاهر المصاحبةِ للسياحة و السفر التجأت لها و استندت عليها الحكومات لرَفعِ الذنب. و من يُجاهر برفضها يلقى صَدَّا و نهْراً. مقالتنا هذهِ ليست تَزَّمُتاً و لا هي دعوةٌ للانعزال لكننا سنصبحُ قريباً في مرحلة السقوط الاخلاقي الحر إن لم نبدأ السقوط فعلاً ما لم نقل و نفصح عن مخاوفنا.
من السذاجة الاعتقاد أن هذا الطرح سيقبلهُ أحد. لا الحكومات و لا الناس بأغلبيتهم فالكل يقتات و يريد الازدياد. و هي سُنَّةَ الله في الخلق أنه كلما اشتهت النفس فوجدت قُوتَ شهوتها ازدادت ابتعاداً عن الصواب، و لا يعقلها إلا الدين لكنه أصبح مُعَلَّبًا أو مُمَسْجَداً إن شئتَ لا تتجاوزَ دعوتهُ النطاقَ المحدودَ في التأثيرِ على الفردِ و ليس السياسات. و ما قومُ نوحٍ و لوطٍ و عادٍ و ثمودَ و مدينَ و پومپيو منا ببعيد. أسقطوا أنفسهم كمؤسساتٍ تملك السلطة و مجتمعاً يتبعها في الحرام حتى ظنوا أنه لا غيره فأتاهم العذاب. و لا أريدُ تأويلَ ويلاتنا المعاصرة بالعقاب الإلهي فما نزل على البشر في الماضي كفيلٌ باتعاظهم، إن أرادوا، و لا أتوقعُ منعَ السياحة المفرطةَ في ملاحقةِ و تطويرِ الفواحش أو خلقَ ميثاقِ أخلاقٍ، بل أتوقعُ انغماساً متزايداً في مكروهاتٍ أخلاقيةٍ وبائيةٍ ستصيبنا بإرادتنا التي لم تعد تعتني إلا بالقوتِ و الهلعِ من الفقرِ الذي يدفعنا لجمعِ المال كيفما أتى. لقد وَصَفَها الله أنها أمٌّ هاوية و الأُم هنا هي الرأس بمعنى سقوطنا من رؤوسنا نحو الجحيم لكون الرأس هو مركزَ العقل الذي يهوي بالبشرِ عندَ انفلات العقل عن حملِ الأمانة. أَهُنَاكَ أبلىٰ من جحيمِ تلاشي الحياء وخيانةِ الأمانة و سفكَ الدماء؟ لا يوجد. و لا أتوقع أن يُنْظَرُ لهذا الحديث إلا على أنهُ وعظٌ، و هو كذلك، و هو أصبحَ واجباً على كل إنسانٍ فيهِ عَقْلَ خيرٍ، و هو التنبيه الذي يجب أن يدق آذان الحكومة و المجتمع و يجبرهم على عقل العقال الذي انفلت، و إلا فإن رايات قوم لوطٍ و أنسالهم هي بانتظارنا.
علي الزعتري
الأردن
حزيران/ يونيو ٢٠٢٣