الوزني يكتب: استقلالية البنوك المركزية وإعادة هندسة السياسة النقدية
يشير تطوُّر مسار الدور الاقتصادي لعمل البنوك
المركزية منذ نشأتها إلى أنَّ فاعلية ونجاعة تلك البنوك في أيِّ دولة يرتبط
أساساً بمستوى استقلاليتها في صنع قرار السياسة النقدية، وما يرتبط به من
ضبط الكتلة النقدية في الاقتصاد، وطباعة النقد، وضبط المستوى العام
للأسعار، أي مكافحة التضخُّم.
ويُعَبَّرُ عادة عن ذلك كله بهدف
محدَّد؛ هو تحقيق الاستقرار النقدي، وهو هدفٌ عمادُه الحفاظ على القوة
الشرائية للعملة الوطنية، أي عدم تآكل دخول الأفراد، وخاصة ذوي الدخل
المحدود، ما يعني الحفاظ على قوة مدخولهم من مصادر رزقهم في مواجهة سلة
السلع والخدمات الأساسية التي يحتاجونها، وهي سلة توسَّعت بشكل كبير على
مدار التطوُّرات العالمية، حتى بات الكثير ممَّا يُصنَّفُ سلعاً كماليةً في
الماضي من ضرورات الحياة اليوم.
وفي العدد الأخير من مجلة التمويل
والتنمية، التي تصدر عن صندوق النقد الدولي، تناولت المجلةُ مداولاتِ
وأراءَ العديدِ من القائمين على الإدارة، والمختصين في عمل البنوك المركزية
في العالم المتقدِّم والنامي حول ما تواجهه البنوك المركزية في عالم اليوم
من تعقيدات تشكِّل تحديات أساسية لاستقلالية البنوك المركزية، ودورها
المحوري في تحقيق الاستقرار النقدي للدول، وهي تحديات جعلت من قضية السيطرة
على حجم النقود في الاقتصاد -بهدف كبح جماح التضخم- الهدف الأسهل، برغم
صعوبته وتشعباته، هذا إذا ما تمَّ قياس ذلك بتعقيدات وتطوُّرات التعاملات
العالمية والمعاملات في ظلِّ ما يُسمّى عالم الفوكا "VUCA" أي عالم
التقلبات وعدم اليقين والتعقيدات، والغموض، ما جعل تحقيق سياسات الاستقرار
النقدي أوسع من مجرد ضبط الكتلة النقدية في الاقتصاد، في ظل ما يُسمى
بالعملات الرقمية، والمُشفّرة، والتعاملات الرقمية، وتوسُّع نطاق مولدات
التضخُّم، من مجرد ضخامة السيولة والكلفة، إلى التعقيدات اللوجستية، وضوابط
سلاسل التزويد، وعدم القدرة على التحكُّم الصارم بتدفقات النقود، وتحديات
النقود الساخنة التي تسعى وراء العائد قبل استقرار الاقتصاد، ومولدات
النقود الهائمة في غسّالات النقود العالمية، وأخيراً، ولعله الأهم، تفاقم
حجم المديونية الرسمية والفردية، وما واجهه العالم من تبعات وباء كوفيد 19،
من قرارات التأجيل وإعادة الجدولة لكلا النوعين، وتزايد الاقتراض العالمي،
الرسمي والفردي، لغايات نفقات جارية غير مُنتجة وغير استثمارية.
الآراء
العملية، لمن هم في ميدان عمل البنوك المركزية، والآراء العلمية للباحثين
المُختصين تقول بضرورة الحفاظ على استقلالية البنوك المركزية في مواجهة
التطوُّرات العالمية، وبما يكفل اجتراح سياسات نقدية متطوِّرة وجديدة تعالج
التحديات المُشار إليها، بل وتستشرف بعض الفرص المستقبلية منها، هذا من
جهة، ولكنها تقول من جهة أخرى أيضاً، إنَّ هناك حاجة لإعادة هندسة السياسات
النقدية لتكونَ أكثرَ مرونةً ورشاقةً في السعي نحو استقرار نقدي يحقِّق
نمواً اقتصادياً حقيقياً متوازناً للدول، وينطلق ذلك من ضرورة تبنّي
توجُّهات سياسة اقتصادية نقدية ذات محاور أساسية ثلاثة: المحور الأول،
ضرورة التنسيق مع السياسة المالية دون التخلي عن أي استقلالية في اتخاذ
القرار النقدي المناسب، وينطوي ذلك التنسيق على العمل سوياً لغايات تحقيق
ضوابط النمو الاقتصادي المطلوب، وتحفيز القطاعات الرئيسة المُحفِّزة للنمو،
كما ينطوي على ضرورة مراقبة توجُّهات السياسية المالية، وما ينجم عنها من
مستويات في العجز المالي، والتوسُّع في المديونية المحلية أو الخارجية،
نظراً لما يشكِّله ذلك من تحدٍ كبيرٍ على تحقيق الاستقرار النقدي الوطني،
في مواجهة التضخُّم القائم على تزايد حجم السيولة، بل والاستقرار النقدي
للعملة الوطنية في مواجهة متطلبات مستويات آمنة للاحتياطيات الأجنبية،
وبالتالي استقرار سعر الصرف.
المحور الثاني، حتمية عدم الاكتفاء
بالدور التقليدي للسياسات النقدية، على أهمية وضرورة ذلك، والخروج إلى فضاء
التطوُّرات العالمية في مجالات العملات الرقمية والمُشفَّرة، وتطوُّر
أدوات التسويات المالية العالمية، في العالم الرقمي والعالم الافتراضي،
وعالم الميتافيرس الذي فرض تسويات نقدية افتراضية متنوعة، وجميع ذلك
يتطلَّب صياغة سيناريوهات عمل جديدة، ووضع سياسات وقوانين وأنظمة تسهم في
المقام الأول في الاستفادة من إيجابيات تلك التطوُّرات، وتعمل على الحد من
أو تجنُّب بعض الآثار النقدية السلبية على الاقتصاد.
أمّا المحور
الثالث والأخير، فإنَّ إعادة هندسة عمل البنوك المركزية حول العالم بات
يرتبط بقدرتها الحقيقية على استشراف المُستقبل، بل والاستباقية في إدخال
أدوات نقدية تسهم في تحقيق هدفَيْها الأساسيَيْن المرتبطَيْن بالاستقرار
النقدي وتحقيق النمو الحقيقي، وهما: ضبط وإدارة الكتلة النقدية بمفهومها
الرقمي والافتراضي والتقليدي، والسيطرة على الأسعار، وبالتالي التضخُّم.
إنَّ
النجاح في المحاور الثلاثة السابق ذكرها هو مفتاح تحقيق نجاح حقيقي في عمل
البنوك المركزية، بيد أنَّ أكبَر ما يجعل من ذلك حقيقة على أرض الواقع هو
بالدرجة الأولى، بل والكبرى، وجود استقلال حقيقي لدى البنوك المركزية في
صياغة وتنفيذ السياسه النقدية، وقوة وصلابة القائمين عليها في تحقيق
الاستقلالية، وقدرتهم الحقيقية على استشراف المستقبل، والاستباقية نحو
اجتراح السياسات النقدية المتطوِّرة القائمة على التنسيق المُتَزِن دون
التخلي عن الاستقلالية، والمُحقِّقة للنمو الحقيقي والتنمية المتوازنة بين
القطاعات، من جهة، وعلى المستوى اللامركزي للجغرافية المكانية للدولة، من
جهة أخرى.
الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com
يشير تطوُّر مسار الدور الاقتصادي لعمل البنوك
المركزية منذ نشأتها إلى أنَّ فاعلية ونجاعة تلك البنوك في أيِّ دولة يرتبط
أساساً بمستوى استقلاليتها في صنع قرار السياسة النقدية، وما يرتبط به من
ضبط الكتلة النقدية في الاقتصاد، وطباعة النقد، وضبط المستوى العام
للأسعار، أي مكافحة التضخُّم.
ويُعَبَّرُ عادة عن ذلك كله بهدف
محدَّد؛ هو تحقيق الاستقرار النقدي، وهو هدفٌ عمادُه الحفاظ على القوة
الشرائية للعملة الوطنية، أي عدم تآكل دخول الأفراد، وخاصة ذوي الدخل
المحدود، ما يعني الحفاظ على قوة مدخولهم من مصادر رزقهم في مواجهة سلة
السلع والخدمات الأساسية التي يحتاجونها، وهي سلة توسَّعت بشكل كبير على
مدار التطوُّرات العالمية، حتى بات الكثير ممَّا يُصنَّفُ سلعاً كماليةً في
الماضي من ضرورات الحياة اليوم.
وفي العدد الأخير من مجلة التمويل
والتنمية، التي تصدر عن صندوق النقد الدولي، تناولت المجلةُ مداولاتِ
وأراءَ العديدِ من القائمين على الإدارة، والمختصين في عمل البنوك المركزية
في العالم المتقدِّم والنامي حول ما تواجهه البنوك المركزية في عالم اليوم
من تعقيدات تشكِّل تحديات أساسية لاستقلالية البنوك المركزية، ودورها
المحوري في تحقيق الاستقرار النقدي للدول، وهي تحديات جعلت من قضية السيطرة
على حجم النقود في الاقتصاد -بهدف كبح جماح التضخم- الهدف الأسهل، برغم
صعوبته وتشعباته، هذا إذا ما تمَّ قياس ذلك بتعقيدات وتطوُّرات التعاملات
العالمية والمعاملات في ظلِّ ما يُسمّى عالم الفوكا "VUCA" أي عالم
التقلبات وعدم اليقين والتعقيدات، والغموض، ما جعل تحقيق سياسات الاستقرار
النقدي أوسع من مجرد ضبط الكتلة النقدية في الاقتصاد، في ظل ما يُسمى
بالعملات الرقمية، والمُشفّرة، والتعاملات الرقمية، وتوسُّع نطاق مولدات
التضخُّم، من مجرد ضخامة السيولة والكلفة، إلى التعقيدات اللوجستية، وضوابط
سلاسل التزويد، وعدم القدرة على التحكُّم الصارم بتدفقات النقود، وتحديات
النقود الساخنة التي تسعى وراء العائد قبل استقرار الاقتصاد، ومولدات
النقود الهائمة في غسّالات النقود العالمية، وأخيراً، ولعله الأهم، تفاقم
حجم المديونية الرسمية والفردية، وما واجهه العالم من تبعات وباء كوفيد 19،
من قرارات التأجيل وإعادة الجدولة لكلا النوعين، وتزايد الاقتراض العالمي،
الرسمي والفردي، لغايات نفقات جارية غير مُنتجة وغير استثمارية.
الآراء
العملية، لمن هم في ميدان عمل البنوك المركزية، والآراء العلمية للباحثين
المُختصين تقول بضرورة الحفاظ على استقلالية البنوك المركزية في مواجهة
التطوُّرات العالمية، وبما يكفل اجتراح سياسات نقدية متطوِّرة وجديدة تعالج
التحديات المُشار إليها، بل وتستشرف بعض الفرص المستقبلية منها، هذا من
جهة، ولكنها تقول من جهة أخرى أيضاً، إنَّ هناك حاجة لإعادة هندسة السياسات
النقدية لتكونَ أكثرَ مرونةً ورشاقةً في السعي نحو استقرار نقدي يحقِّق
نمواً اقتصادياً حقيقياً متوازناً للدول، وينطلق ذلك من ضرورة تبنّي
توجُّهات سياسة اقتصادية نقدية ذات محاور أساسية ثلاثة: المحور الأول،
ضرورة التنسيق مع السياسة المالية دون التخلي عن أي استقلالية في اتخاذ
القرار النقدي المناسب، وينطوي ذلك التنسيق على العمل سوياً لغايات تحقيق
ضوابط النمو الاقتصادي المطلوب، وتحفيز القطاعات الرئيسة المُحفِّزة للنمو،
كما ينطوي على ضرورة مراقبة توجُّهات السياسية المالية، وما ينجم عنها من
مستويات في العجز المالي، والتوسُّع في المديونية المحلية أو الخارجية،
نظراً لما يشكِّله ذلك من تحدٍ كبيرٍ على تحقيق الاستقرار النقدي الوطني،
في مواجهة التضخُّم القائم على تزايد حجم السيولة، بل والاستقرار النقدي
للعملة الوطنية في مواجهة متطلبات مستويات آمنة للاحتياطيات الأجنبية،
وبالتالي استقرار سعر الصرف.
المحور الثاني، حتمية عدم الاكتفاء
بالدور التقليدي للسياسات النقدية، على أهمية وضرورة ذلك، والخروج إلى فضاء
التطوُّرات العالمية في مجالات العملات الرقمية والمُشفَّرة، وتطوُّر
أدوات التسويات المالية العالمية، في العالم الرقمي والعالم الافتراضي،
وعالم الميتافيرس الذي فرض تسويات نقدية افتراضية متنوعة، وجميع ذلك
يتطلَّب صياغة سيناريوهات عمل جديدة، ووضع سياسات وقوانين وأنظمة تسهم في
المقام الأول في الاستفادة من إيجابيات تلك التطوُّرات، وتعمل على الحد من
أو تجنُّب بعض الآثار النقدية السلبية على الاقتصاد.
أمّا المحور
الثالث والأخير، فإنَّ إعادة هندسة عمل البنوك المركزية حول العالم بات
يرتبط بقدرتها الحقيقية على استشراف المُستقبل، بل والاستباقية في إدخال
أدوات نقدية تسهم في تحقيق هدفَيْها الأساسيَيْن المرتبطَيْن بالاستقرار
النقدي وتحقيق النمو الحقيقي، وهما: ضبط وإدارة الكتلة النقدية بمفهومها
الرقمي والافتراضي والتقليدي، والسيطرة على الأسعار، وبالتالي التضخُّم.
إنَّ
النجاح في المحاور الثلاثة السابق ذكرها هو مفتاح تحقيق نجاح حقيقي في عمل
البنوك المركزية، بيد أنَّ أكبَر ما يجعل من ذلك حقيقة على أرض الواقع هو
بالدرجة الأولى، بل والكبرى، وجود استقلال حقيقي لدى البنوك المركزية في
صياغة وتنفيذ السياسه النقدية، وقوة وصلابة القائمين عليها في تحقيق
الاستقلالية، وقدرتهم الحقيقية على استشراف المستقبل، والاستباقية نحو
اجتراح السياسات النقدية المتطوِّرة القائمة على التنسيق المُتَزِن دون
التخلي عن الاستقلالية، والمُحقِّقة للنمو الحقيقي والتنمية المتوازنة بين
القطاعات، من جهة، وعلى المستوى اللامركزي للجغرافية المكانية للدولة، من
جهة أخرى.
الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com