تصوّرات حول السياسات الإقتصادية في ظل بيئة سياسية معاكسة
في الإقتصاد السياسي والمجتمع
د.أنور الخُفّش
الشكوك تحيط بالأوضاع الإقتصادية العالمية المتوقّعة على المدى المتوسط في ظل إستمرار الحرب في أوكرانيا وإستمرار الصراع الغربي من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، كما أن مؤشّرات إتجاه نمو القوى خلال عام 2023 غير واضحة ، وإتجاهات الإنفراج وتوسُّع النشاط الإقتصادي في أمريكيا الشمالية ضعيفة ، تعثُّر الإنتعاش في أوروبا غير واعدة ، وبدأت عملية الإنتعاش في دول الخليج ، كما أن إرتفاع معدلات التضخُّم والعجز الكبير في الميزانيات يمِّثلان شبح بإطالة أمد الأزمة في الإتحاد السوفييتي السابق ، ويُعتبر أهم ميّزة إيجابية في حالة الإقتصاد هو إستمرار النمو القوي ، الغائب في عديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
بدأت بوادر الركود والإنكماش التضخمي الإقتصادي في أمريكيا الشمالية وبريطانيا وأستراليا ومعظم الدول الإسكندنافية ما بعد جائحة كورونا ، كنتيجة لتصحيح قيمة الإقتصادات والتجارة وغيرها من الأصول ما بعد جائحة كورونا نتيجة للتقلُّبات الإقتصادية الناجمة عن برامج التعافي المالي والإقتصادي ما بعد فترة إنغلاقات طالت عجلة الإنتاج والتشغيل والتجارة ، والذي أدى بدوره إلى إنخفاض النمو ، من هذا المنطلق نتحسّس حاجة المؤسسات المالية وقطاع الأعمال إلى تصحيح ميزانياتها ، أن العامل الأساسي والمؤشر على عملية التصحيح وأثرها على النشاط الإقتصادي ، هي المقدِرة على التعامل مع السياسة النقدية بمرونة ويُسر ، والتي تؤدي الى تخفيض تكلفة التمويل والتحكم في الأصول غير المنتجة وغير المربحة في النظام المالي وتصحيح أوضاعها .
الدروس والعبر المستفادة ، حيث كانت للسياسات التي إختارتها الحكومات الأوروبية لمواجهة النتائج الإقتصادية والمالية لألمانيا الموحدَّة من ظهور مشاكل أساسية ناشئة عن تصحيح الميزانيات على قطاع الأعمال والإرتفاع المقلق في مستويات الدَّين العام ، وإستمرار الضغوط على أسعار الفائدة التي زادت من صعوبات الوضع الإقتصادي في أوروبا في ذلك الوقت والتي صاحَبَها تصلُّب أسواق العامل وهبوط الثقة نتيجة للضغوط التضخميَّة وإرتباط العُملات الأوروبية بالمارك الألماني والذي إنعكس في نهاية الأمر على أسواق النقد العالمية . والتي صاحَبَها الشُكوك حول نجاح إتفاقية معاهدة ماسترخت حول الوحدة النقدية والإقتصادية وكنتيجة إنخفاض القدرة التنافسية التي أثرت بالزيادة على قيمة بعض العملات والتي كانت المؤشر الأول لحدوث الأزمة في نظام النقد الأوروبي ، وإتسع نطاق تقلُّبات أسعار صرف العملات الى 15% حيث عقد إتفاق ثنائي في أغسطس 1993 بين السلطات النقدية في ألمانيا وهولندا للمحافظة على النطاق الضيق وقدر 2.25% بين الجدار الهولندي والمارك الألماني . تجربة يستدعي تطويرها بأدوات شمولية لبرامج تعافي مالية وإقتصادية تعاونية بين جميع الدول قدر المُستطاع .
ومن المعروف أن لهكذا إتفاق علاقة في تكييف أسعار الفائدة مع المتطلبات والأوضاع الإقتصادية السائدة ، وزيادة النطاق قد يؤدي الى فقدان الموثوقية في السياسات المالية والإقتصادية ويزيد من المخاطرة في بعض البلدان، كما يجمع المحلّلون الماليون والإقتصاديون بأن توسيع نطاق التغير في أسعار العملات هو حل مؤقت لمواجهة تضارب المصالح ، والعودة الى نطاق ضيّق يتطلَّب الإتساق بين الأداء الإقتصادي والسياسة النقدية ، ولا يمكن أن تتحقق هذه المتطلبات الإقتصادية المحلية دون حدوث إنتعاش إقتصادي عام ، وما يعزز هذا الإعتقاد ضرورة توفُّر تعاون عالمي على درجة أكبر تقدّماً في المجالات النقدية والمالية العامة والإقتصادية ، من هنا يظهر الإهتمام الدولي بضرورة تحقيق التعاون العالمي في المجالات الإقتصادية .
أثبتت التجارب الأخيرة في بلدان عديدة بأن الخُطط التقليدية لتخفيض العجز لا تساعد على تحقيق أهداف إقتصادية واسعة النطاق ، متمثلة في تحسين أداء الإدخار القومي والإستثمار وتحقيق معدلات نمو تساعد على توفير رصيد في القطاع الخارجي وزيادة الوفورات لمواجهة الإعتمادات المطلوبة في المستقبل لمواجهة زيادة السكان وأعباء الميزانيات المستقبلية ، ويجب أن يرافق ذلك ، تخفيض في العجز الهيكلي والذي يهدف الى تحقيق فائض في وضع الميزانيات ، من هنا جاءت الميزانية السعودية مواكبة لهذا التوجُّه بإعطاء القطاع الخاص الدور بالقيام بمهامه الوطنية من خلال المحافظة والعمل على تحسين أدائه الجيد وذلك لمواجهة الآثار الناجمة عن تقلبات أسعار النفط العالمية على الإقتصاد السعودي ، فإن هذا التوجُّه الإيجابي والريادي بمشاركة ومساهمة القطاع العام والخاص معاً نحو تحقيق النمو الإقتصادي بهدف المحافظة على إتجاه الوضع المالي بالمملكة وأن لا يقتصر على مشاريع القطاع العام فقط . ما يعزز هذا التوجه أصبحت المملكة مصدر جذب للإستمثارات الدولية وما يؤكد هذا الإعتقاد هو إستمرار تدفُّق رؤوس الأموال من المستثمرين السعوديين والأجانب في المشروعات المشتركة الكبرى.
في الإقتصادات الناشئة الخيار الأفضل إعتماد ميزانية للسنوات الثلاث القادمة ، على قاعدة أساسية وهي تخفيض الدَّين العام والعمل على تحسين الإدخار والإستمار ، وفي حالة عدم إجراء إصلاح في نطاق العناية الصحيحة من المُتوقع أن يكون إتجاه العجز بالتزايد مستقبلأ . إستراتيجة إدارة الدَّين وتخفيض تكاليفه ، تمكِّنها من إدارة السياسة المالية بمرونة كافية يساعدها على المحافظة على موثوقيتها في أسواق المال العالمية ويعزز قدرتها على النفاذ عند الحاجة للتمويل . ومن المتوقع أن يتم إجراء تخفيض في معدَّل الخَصم والذي سينعكس على تحسين مستوى المعيشة ، والتوجُّه نحو فتح الأسواق وإجراء إصلاحات هيكليّة من رفع القيود والحماية وتحويل آثار قوة الدَّين على المنتجين والمستهلكين ، وتغيير سياسة المساكن ، من خلال بذل جهود نحو تخفيض العجز الكبير في الميزانية على المدى المتوسِّط من أجل المحافظة على موثوقية السياسات الإقتصادية وأن التقيُّد الحكومي بالمعايير المنصوص عليها بمعاهدة ماسترخت والخاصة بتخفيض العجز يساعد على التحسُّن في الوضع الأساسي للميزانية ، بذلك لا بد من استكمالها بتدابير أخرى تساعد على إجراء هذا التحسُّن . بينما يساعد تخفيض أسعار الفائدة على تحسين قدرتها التنافسيَّة ، والذي بدوره سيساهم بتحويل الإنتعاش الى توسع معتدِل مع المحافظة على هبوط التضخم ، إلا أن العجز الكبير في الميزانية ووجود كبير من الطاقة الإنتاجية غير المستغلَّة يعرِّضان الأوضاع الإقتصادية المستقبلية لمخاطر عدة .
فيما يتعلق بسوق العمل خاصة ، من المنتظر أن ترتفع معدلات البطالة ، وذلك كنتيجة لإبطاء الإجراءات التصحيحية وآلية الإستمرارية اللذان يشكلان عقبة رئيسية في إستيعاب العاطلين الجدد ، فإن الإجراءات الواجب إتخاذها تهدف الى تحسين أوضاع سوق العمل ، من هذه الإجراءات: تصحيح الإختلال المالي في تكوين السياسات الإقتصادية في الإقتصادات الناشئة الذي بدوره سيُسهم في دعم الإنتعاش الإقتصادي ، كذلك من الضروري إصلاح نُظُم التأمين الإجتماعي وقوانين سوق العمل ، ومرونة الأجور ، وخلق فُرص العمل والتعلُّم والتدريب . رغم أهمية وتعاظُم دور وزارة العمل سعياً لتأمين الإستقرار السياسي ، الضرورة تقتضي تأسيس هيئة لتنظيم سوق العمل بإدارة وزارة العمل والإستثمار وغُرف التجارة والصناعة ونقابات العمال كصيغة تشاركيّة لحمل المسؤولية الوطنية .
الرئيس التنفيذي / مرصد مؤشر المستقبل الإقتصادي
anwar.aak@gmail.com