الشيخ بايدن
جهينة نيوز -لم ينقص جو بايدن سوى المسبحة الكهرمان الطويلة والعمة الخضراء وزبيبة الصلاة البنّية الغمقة لتعلو جبهته وماء الوضوء ليقطر من مرفقيه... ليكتمل المشهد السريالي الذي ظهر فيه وهو يستشهد بحديث "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، في دعاية انتخابية رخيصة يغازل من خلالها الناخبين الأمريكيين المسلمين ومرسلاً رسائل إلى الأقل أهمية على أجندته؛ أنظمة الدول العربية والإسلامية التي ينطبق على جلّها وهي في حالة الترقب لنتائج هذه الانتخابات مقولة المؤلف العظيم الراحل محمد تيمور في أوبريت العشرة الطيبة: "وارقص ودندن لكلِ قردٍ ما دمتَ في دولةِ القرودِ".
جو بايدن الذي ما زلت أذكر ذاك اللقاء المشؤوم الذي جمعني به منذ حوالي عشر سنوات حينما كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما مع مجموعة من المشتغلين بالعمل السياسي والمدني في عمان، وسألته حينها: "كيف يمكن لك أن تأتي للشرق الأوسط وتجلس معنا وتحدثنا عن عدالة السياسة الأمريكية وأنت قبل مجيئك إلى الأردن بأيام قليلة صرحت بملء فمك بأنك تفتخر أنك صهيوني وأن هذا كان حلمك وأنت صغير، ثم ألقيت خطاباً متعصباً في جامعة تل أبيب قبل وصولك عندنا بساعات"، فما كان منه إلا أن أجابني بعصبية ووقاحة: "هذا ليس من شأنك، لم آتِ هنا لأستمع لتحليل لخطابي في تل أبيب أو اتجاهاتي السياسية".
بايدن الذي كان أول ما تعهد به حال انفراده بالترشح مقابل ترامب بعد تنازل ساندرز هو الإبقاء على مقر السفارة الأمريكية في القدس مطمئناً بذلك رفاق السلاح والفكر والعقيدة من الصهاينة الذين يفاخر بأنه منهم وأنه حتى لو لم يكن يهودياً فهو صهيوني قولاً واحدا؛ لم يخفِ اعتزازه بأنه جزء من حركة سبق وتم تصنيفها أممياً بأنها حركة عنصرية وهي باقية كذلك في وجدان كل من مسته شظايا الاحتلال من قريب أو بعيد من أبناء هذه المنطقة المنكوبة بأنظمتها ونظمها وتنظيماتها وجمع لا يستهان به من أفرادها.
تاريخ بايدن حافل بالمواقف السلبية والمتطرفة اتجاه بلاد المنطقة، فقد كان-كما يصفه البعض- سبباً في تشويه الهوية السياسية للحزب الديمقراطي حيال المواقف الثابتة من السياسة الخارجية "المتوازنة والمتعقلة"، الأمر الذي بدا جلياً حينما صوت لصالح قرار استخدام القوة وشرعنة الغزو الأمريكي للعراق عام 2002 حيث كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، طبعاً هذا بصرف النظر عن المقولة العبثية وقشة الغريق التي يبدو أن بايدن اقتبسها من رفاقه من الزعماء العرب المخلوعين أو من تبقى خلفهم من مسؤولي أنظمتهم المتهاوية: "لقد تم خداعي"!
لم يقف التورط السياسي والأخلاقي لبايدن في غزو العراق عند حد التصويت لصالح القرار بل تجاوزه ليكون وكما يقول العديد ممن عاصروا فترة مشاركته لإدارة الأزمة هناك منذ عام 2009 وحتى عام 2014؛ من المساهمين الرئيسيين في خلق حالة الفوضى التي سادت العراق عقب سحب الجنود الأمريكيين عام 2011 وخفض عددهم من 150 ألف جندي إلى لا جندي تقريبا، حيث ساند بايدن وبقوة المالكي لأنه رأى فيه الخيار الأمثل الذي يمكنه توفير الحماية للمستشارين الأمريكيين الذين سيظلون في العراق لتقديم المساعدة اللازمة للحكومة لتحقيق "الاستقرار"، لينتهي الأمر برئيس وزراء طائفي استئصالي تبنى التصفية الجسدية بمباركة المرجعيات الدينية منهاجاً للتخلص من خصومه وتثبيت قواعد حكمه المستبد. لقد كان من نتائج إدارة بايدن لملف الانسحاب غير المدروس من العراق –كما يقول العديد من المحللين والساسة الأمريكيين- خلق فراغ مفاجئ تمكن تنظيم داعش من ملئه بسهولة والاستحواذ على حوالي 40% من الأراضي العراقية بحلول صيف 2014.
إدارة بايدن لملف الأزمة السورية لم تكن أكثر حكمةً أو تعقلا، إذ أفضى الموقف المتذبذب بل المتخاذل من مراحل مفصلية في الأزمة السورية خصوصاً في بداياتها مثل البروباجندا الدعائية التي افتعلتها أمريكا بعد أن أقرت باستخدام الجيش السوري للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين؛ إلى خلق أوضاع مهدت لأزمة إنسانية غير مسبوقة في المنطقة في تاريخها المعاصر. بايدن كان من الذين غضوا الطرف في العلن وأيدوا في الغرف المغلقة الثورات المضادة في بلدان ما يسمى بالربيع العربي، حيث تجلى ذلك في موقفه من تولي المؤسسات العسكرية في بعض تلك الدول لزمام الأمور وانقضاضها على الثوار واستئثارها بالحكم، هذا فضلاً عن تأييده للحرب في اليمن ومساهمته بسبب سوء الإدارة بخلق واقع فوضوي انقسامي في ليبيا. يلخص وزير الدفاع السابق في إدارة أوباما روبرت غيتس كل هذه الأخطاء الجسيمة لبايدن بقوله: "من المستحيل أن لا يحب المرء بايدن، لاكنه كان مخطئاً في كل قرارات قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي الرئيسية تقريباً على مدار العقود الأربعة الماضية".
لن نخوض في مواقف بايدن الداخلية بعمق بدءً من انضمامه للاتجاه المقاوم للسماح باختلاط الأطفال السود بالأطفال البيض في الحافلات في سبعينيات القرن الماضي تمهيداً للقضاء على كافة أشكال الفصل العنصري في الولايات الجنوبية، ولا للادعاءات التي قد تكون بواعثها انتخابية من خصومه والمثارة ضده حول اعتدائه جنسياً على معاونته منذ أكثر من 30 سنة، ولا على ما ينعاه عليه البعض من عدم لياقة أسلوبه في طريقة السلام على النساء وميله الغريب لشم شعرهن ولا لادعاءاته ذات المغزى السياسي التي كذب فيها على جموع الناخبين حينما قال أنه ينحدر من أسلاف وأجداد كانوا يعملون في مناجم الفحم في ولاية بنسيلفانيا وأنه "غاضب لأنهم لم يحصلُ على الفرص التي يستحقونها في الحياة"، وذلك كله ليستميل الطبقة العاملة من الأمريكيين، الأمر الذي اتضح كذبه وأنه سرق هذه المقولة من السياسي وزعيم المعارضة البريطاني العمالي المخضرم نيل كينوك، إذ لم يعمل أحد من أسلاف بايدن في مناجم الفحم البتة... لن نخوض في كل هذه المواقف والتناقضات، فما يهمنا هنا هو الدرس المتكرر الذي تعيشه أمتنا كل أربع سنوات ولا تتعلم منه قطّ، فالنظرات في منطقتنا تتعلق دائماً بمجريات مشهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية ويبدأ كل معني بها – وهم كثر- برسم خارطة النتائج والمواقف والآثار التي ستترتب على فوز هذا من ذاك، ومخاطر فوز علّان وخسارة فلان، وواقع الأمر يقول أننا شئنا أم أبينا فإن أمريكا دولة مؤسسات ودستور يُحترم وليس دمية يتقاذفها الرؤساء في ما بينهم حينما يتولون زمام الحكم؛ كما هو الحال في العديد من الدول النامية البائسة التي يكثر فيها خياطوا القوانين والدساتير على قلّة مرتديها، فكم من دستور في هذه الدول تم تعديله لينسجم مع شهادة الميلاد للقادم الجديد ومتوسط العمر المتوقع له ولذريته، لذلك فإن لغة المصالح ومقتضياتها هو ما يحدد مضمون ومسار السياسة الخارجية لأمريكا وأي دولة تحترم شعبها وأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية؛ بغض النظر عن أي مواقف قيَمية معلنة أو أيديولوجيات حزبية راسخة؛ إذ أن هذه الأمور تجد دائماً أثرها وانعكاساتها الأكبر في الداخل وليس الخارج، وهو عين الصواب.
سواءً ظل "مبعوث العناية اللإهية" ترامب في موقعه يؤم العالم أو خَلَفَه الشيخ بايدن، فإن كلا الوليين وإن اختلفا في المذهب مع شعبهما، فإنهما مع دول المنطقة يعتنقان المذهب ذاته: درهمني تجدني وأعطني استبداداً أعطيك شرعية وبقاء، أما الشعوب المقهورة، فلا بأس من استرضائها قبل كل انتخابات رئاسية بحديث أو آية أو تهنئة بحلول شهر رمضان أو أحد العيدَين بلغة عربية مكسرة كما فعل من قبل الرئيس كلينتون سنة 1998 حينما خرج على الشاشة يقول: "Ramadan Kareem” وطائرته تدك بغداد وبيوتها الآمنة.