شمال شرق سورية لمن الغلبة فيه

جهينة -

منذ ان انطلقت العملية العسكرية التركية في شمال شرق سورية بهدف إقامة منطقة آمنة فيه على امتداد ٤٤٤ كم وبعرض ٣٢ كم وطرد المسلحين الاكراد منها وانا اتابع الأحداث وتطوراتها واجمع العناوين واسجل مقتطفات من التصريحات والمخاطبات واتابع التحركات العسكرية والسياسية والمواقف الدولية منها ، بالاضافة الى مواقف أطراف الصراع وهي النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية وتركيا ، والأهم مواقف كل من الولايات المتحدة الامريكية وروسيا ، واهم التصريحات الصادرة من جميع الأطراف وعلى مختلف المستويات . حيث جمعت صفحات وصفحات من رؤوس الأقلام وكنت انتظر اكتمال المشهد حتى اكتب عنه وأحلل مشاهده وخلفياته . ولكن مع توالي المشاهد ومرور الوقت كانت افكاري تتنقل وتحليلاتي تتغير من أقصى اليمين الى أقصى اليسار بسبب تذبذب المواقف والتحالفات ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار بحيث اصبحت امسي على تحليل واصبح على آخر .
وكانت البداية ذلك الاتصال الهاتفي الذي تم ما بين ترامب وأردوغان والذي كانت بدايته ودية ولكنه انتهى نهاية سيئة عندما تحدث اردوغان عن عزمه القيام بعمل عسكري في الشمال السوري حيث رد عليه ترامب بطريقة وقحة . وما تبع ذلك من إصدار ترامب أوامره بإنسحاب قسماً من الجيش الاميركي من شمال شرق سورية واعلان اردوغان عن انطلاق عملية نبع السلام والتي يشارك فيها الجيش التركي مع تنظيمات المعارضة السورية التي جمعتهم تركيا تحت مسمى الجيش الوطني السوري بهدف انتزاع هذه المنطقة من قبل الاكراد وطردهم منها واقامة المنطقة الآمنة فيها ، وما عقب ذلك من مواقف متناقضة داخل الإدارة الامريكية فيما بدى وكأنه تبادل ادوار . حيث دانت اغلبية الكونجرس خطوة اردوغان تلك وطالبت بفرض عقوبات على تركيا واعتبرت ما قام به ترامب خيانة لحلفائهم الاكراد وكان من هذه الاغلبية كثيرون من حزب الرئيس . فيما صدرت تصريحات متناقضة من ترامب وأفراد إدارته ما بين دفاع عن الاكراد والهجوم على اردوغان وتوقيع عقوبات اقتصادية على تركيا والتهديد بتدمير الاقتصاد التركي في حال استمرار الهجوم التركي . وما بين مغازلة تركيا والقول ان لها مبرراتها لهذا الهجوم والقول ان الاكراد قد اخذوا ثمن مشاركتهم في محاربة داعش وانهم يمثلون خطراً على تركيا وان حزب للعمال الكردستاني يمثل تهديداً ارهابياً اكثر من داعش .
وكانت التحليلات حتى هذه اللحظة ترجح ان ترامب سعى لتوريط تركيا للقيام بهذا الهجوم للانتقام منها بعد ان عقدت صفقة الصواريخ الروسية وان تركيا وقعت في الفخ كما وقعت العراق ذات يوم بالفخ .
وقد عزز هذا التحليل ما كان يجري على الجانب الآخر والذي كانت روسيا تقوم فيه بالدور الرئيسي . فهي بداية لم تبدي معارضة واضحة للتدخل التركي وان حددته بأن يكون على عمق ما بين خمسة الى عشرة كيلومترات فقط ، كما اعلن النظام السوري انه غير مستعد للتدخل لصالح قوات سورية الديمقراطية طالما انها تتعامل مع الولايات المتحدةالاميركية وطالما ان القوات الامريكية متواجدة هناك . وقد بدى حتى هذه اللحظة ان الهدف الروسي والسوري هو أضعاف الأكراد في شمال شرق سورية والذين كانوا قد أقاموا إدارة ذاتية في تلك المنطقة وأبدوا ميولاً انفصالية ، ولإستغلال الوضع للمطالبة بإنسحاب القوات الامريكية من المنطقة الامر الذي تم وأصدر ترامب اوامره بسحب كافة القوات الاميركية المتواجدة في هذه المنطقة والبالغ عددها الف جندي .
وقد فتح هذا الانسحاب لإعلان اتفاق ما بين قوات سورية الديمقراطة / قسد والنظام السوري برعاية روسية يقضي بأن تقوم قوات النظام بالدخول الى بعض المواقع والبلدات الهامة على الحدود السورية التركية والتي تهدف القوات التركية لإحتلالها في بدايات هجومها وان تنسحب قوات قسد الى الخلف على ان تكون روسيا هي الضامنة لهذا الاتفاق . وفعلاً فقد تقدمت قوات النظام ودخلت عدة مواقع لم تكن قد دخلتها منذ بداية الأحداث في سورية حيث انتشرت هذه القوات ببعض المواقع مثل تل نمر وعين عيسى وموقع اللواء ٩٣ ومنبج وشمال الرقة وعين العرب (كوباني) بالاضافة للقواعد التي كانت تتواجد بها القوات الاميركية قبل انسحابها . وقد شاهدنا على شاشات التلفزة القوات الاميركية وهي تنسحب فيما تسير على الاتجاه الآخر من الشارع قوات النظام للتمركز في النقاط التي اشرت اليها ، فيما اخذت قوات روسية تسير دورياتها على الحد الفاصل ما بين القوات السورية والتركية .
وهنا عقدنا لواء النصر لروسيا على اميركا وللنظام السوري على تركيا ، وقلنا ان الدب الروسي قد حقق نصره على اميركا وان النظام قد عاد ليسيطر على مناطق الحدود وان قوات قسد سوف تتراجع الى الخلف بعيداً عن الحدود مع تركيا وان مباحثات ستعقد ما بين الاكراد والنظام خلال ايّام للاتفاق على طبيعة العلاقة بينهما داخل الدولة السورية وبرعاية روسية .
ثم كانت الدهشة والصدمة التي كانت بدايتها قيام ترامب بتشديد تهديداته لأردوغان وتهديده بتدمير الاقتصاد التركي اذا لم يوقف هجومه على الشمال الشرقي لسورية حيث مواقع الأكراد . كما قام بارسال رسالة مهينة له بعيدة جداً عن الأعراف الدبلوماسية . ثم تم الاعلان ان نائب الرئيس الامريكي مايك بنس ومعه وزير الخارجية الامريكي مايكل بومبيو سوف يتجهان الى انقرة للاجتماع مع اردوغان وإعطائه الفرصة الأخيرة لوقف هجومه والذي رفض ان يلتقي مع الوفد الاميركي وقال انه لن يتحدث الا مع ترامب مباشرة . ولكن. فيما بعد وبطريقة مفاجئة اعلن اردوغان انه سوف يلتقي بهما . وقد نقلت لنا كميرات التلفزة بداية جلسة المفاوضات وكيف كان التجهم والعبوس على وجوه اعضاء الوفدين التركي والأمريكي ، ولتغيب بعدها الكميرات عن قاعة الإجتماع ليظهر ترامب بعد ساعات ليعلن عن انتصاره وان اردوغان قد خضع لطلبه بوقف هجومه على الشمال السوري ، وان هذا الاتفاق هو انتصاراً لتركيا وللأكراد وانه إنقاذاً لحياة الملايين من البشر مما ادى الى أنتشار حالة من الامل بتجاوز هذه الازمة. ولكن وعندما اعلنت تفاصيل الاتفاق تبين ان الولايات المتحدة قد وقعت بالموافقة على جميع مطالب تركيا من حيث دخولها كامل المنطقة المستهدفة من هجومها وان تنسحب قوات قسد الى خارج هذه المنطقة بعد ان تدمر او تسلم جميع اسلحتها وان تدمر جميع تحصيناتها وأن يتم ذلك خلال ١٢٠ ساعة ، توقف خلالهم تركيا إطلاق النار دون ان يعتبر ذلك وقفاً لعملياتها العسكرية الا بعد التأكد من تنفيذ قوات قسد لجميع الشروط المطلوبة منها . وهذا يعني اقتطاع قسماً كبيراً من الاراضي السورية ووضعها تحت سيطرة دولة اخرى في مسلسل اقتطاع أجزاءاً من الاراضي العربية ومنحها للآخرين .
وقد كانت المفاجئة هو ما أعلنه القائد العسكري لقوات قسد الجنرال مظلوم عبدي من ان هذه الاتفاقية كانت نتيجة جهود واتصالات تمت على مدار ثلاثة ايّام وان الإدارة الكردية الذاتية موافقة على هذا الاتفاق ، أي في نفس الوقت الذي كانت تجري هذه القوات وهذه الإدارة اتصالاتها مع روسيا والنظام في دمشق لتسليمهما مواقعها الحدودية مع تركيا . ولنجد ان تركيا هي التي خرجت بكل الغنائم .
وبعد ذلك اشتعلت النيران في أحراش لبنان وغطى دخانها على ما يحصل في سورية وما ان تم اخماد حرائق الغابات حتى اشتعلت شوارع لبنان في مظاهرات الاحتجاج والمطالبة باسقاط النظام على الطريقة اللبنانية الخاصة فغابت كميرات الفضائيات عما يجري في سورية وغابت أخبارها عن هذه الفضائيات الا ما ندر ، ودون ان نعرف ما وراء سطور هذا الاتفاق وخفاياه ودون ان نعرف مصير القوات السورية التي دخلت المناطق الشمالية مع اقتراب الساعات التي حددها اردوغان من الانتهاء ، ولم نعرف ما هو موقف النظام السوري مما جرى غير تصريح بشار الأسد بأن ما تم هو عملية احتلال من قبل القوات التركية لمناطق سورية وان سورية ستعمل على استعادتها بكل الوسائل المتاحة . اما روسيا فعادت للمطالبة بتواجد القوات السورية على الحدود بين الطرفين .
الا ان اردوغان حذر من التواجد العسكري السوري في المنطقة الآمنة التي سوف تشرف عليها القوات التركية و كذلك في الرقة ودير الزور والتي من الممكن ان يتم ضمهما لهذة المنطقة الآمنة المحددة بالاتفاق مع اميركا لتتسع لمليونين من النازحين السوريين الى تركيا .
اما على الجانب الكردي فقد صرح قائد قوات سورية الديمقراطية بأن القوات التركية تمنع قواته والجرحى والسكان من الخروج من مدينة راس العين وفي نفس الوقت تطالب بانسحابهم قبل الموعد المحدد . وقال ان انسحابنا سيكون بعد السماح لقواتنا بالخروج من بلدة رأس العين ، وانه اذا لم يتم ذلك فأن هذا سوف يعني مؤامرة أمريكية تركية علينا . كما انه حدد ان انسحابهم سيكون من المنطقة الممتدة ما بين رأس العين وتل ابيض التي يبلغ امتدادها حوالي ١٥٠ كم بعمق ٣٢ كم ، ونفى علمهم او موافقتهم على الانسحاب من مناطق تمتد الى ٤٤٤ كم . في حين ان اردوغان توعد وحدات حماية الشعب الكردي بسحق رؤوس عناصرها اذا لم يستكملوا انسحابهم من جميع الاراضي الممتدة من نهر الفرات الى الحدود العراقية قبل مساء يوم الثلاثاء القادم في نهاية المدة التي حددها لهم للانسحاب .
فهل نحن على موعد مع الشوط الثاني من هذه المباراة التي ملعبها على الاراضي السورية ، فيما الشعب السوري فيها كرة القدم . وهل ستنتهي المباراة في وقتها الأصلي ام ستحتاج الى أشواط إضافية وربما طلقات جزاء ترجيحية ؟ هذا ما ستكشفه الايام القادمة.