ثلاثية الأندلس Andalusia
د. أيّوب أبو ديّة
نشرت قناة الجزيرة برنامجا بعنوان "ثلاثية الأندلس" ترك انطباعاً كبيراً لدي وبخاصة عندما علمت أن أغلب الباحثين من الإسبان يعتبرون أن انتهاء الحكم في الأندلس جاء نتيجة غزو الملوك المسيحيين من الشمال والذي نجم عنه تدمير لحضارة الأندلس بتنوعها الثقافي والديني، والدليل على ذلك هو أن ما تبقى من إسبانيا اليوم مجرد كاثوليكي وإسباني وحسب.
قام الأساتذة الإسبان في البرنامج بطرح أسئلة على طلابهم الإسبان لمعرفة مقدار علمهم بالمفكرين والفلاسفة الأندلسيين، فعندما سألوهم عن ابن رشد بالعربية والإنجليزية، لأن لقب ابن رشد باللاتينية هو Averroes، فإنهم لم يسمعوا به من قبل، ولم يسمعوا كذلك بموسى بن ميمون الفيلسوف اليهودي الأندلسي، أو ابن حزم الأندلسي، فكان ذلك دليلهم على طمس ممالك الشمال لحضارة الأندلس، علماً بأن 60% من جيش الملك فرديناند كانوا من المغاربة المسلمين عندما هاجم اشبيليا واستولى عليها قبل أكثر من مئتي عام على انتهاء حكم العرب في الأندلس بشكل كامل عام 1492.
ومن اللافت كيف أن الأساتذة الاسبان عاتبوا طلابهم بأنهم لم يعلموا أن ابن رشد هو قرطبي أندلسي وأن دانتي ذكره في ملحمته المشهورة كذلك رسمه رافائيل احد اهم فناني عصر النهضة في لوحته التاريخية بحضور أرسطو وأفلاطون وزردشت وغيرهم من العلماء والفلاسفة، إذ كان علماء وأدباء وفنانو عصر النهضة الأوروبية يتشرفون بالحديث عن علماء الأندلس، حيث أن دانتي وضعه بمستوى الناس الأخيار في الجنة في ملحمته الشهيرة.
وذكرني البرنامج كذلك بكتاب الأديب والروائي الدكتور سميح مسعود "على دروب الأندلس" الذي صدر مؤخراً عن دار الآن، حيث جاء في فاتحة الكتاب اقتباس عن الأديب الأندلسي الفذ لوركا قوله: "عندما أموت ادفنوني تحت الرمال في الصحراء العربية"، وذكر في كتابه أن المفكر الإسباني الراحل خوان غوتييسولو مؤلف كتاب "إسبانيا في مواجهة التاريخ" قام بإهداء جائزة ثربانتس العالمية التي تسلمها من ملك إسبانيا عام 2014 إلى مدينة مراكش التي أحبها بوصفها امتداداً للحضارة العالمية التي تشكلت في إسبانيا وشمال إفريقيا.
فإذا قارنا هذا الشعور الإسباني الرائع بخصوصية الحضارة الأندلسية بتنوعها الديني والمذهبي والفكري والحضاري وكيف أن هؤلاء الناس من الإسبان يفتخرون بانتمائهم لهذه الحضارة بينما إذا قمنا بمقارنتها بما حدث في فلسطين، على سبيل المثال، من تدمير ممنهج للهوية الفلسطينية العربية والإسلامية والمسيحية وتحويل القرى العربية إلى سجون كبيرة منعزلة، وما حدث في أمريكا الشمالية عندما تمت إبادة أغلب السكان الأصليين ووضعهم في مخيمات ومناطق محمية كالمحميات الطبيعية التي تحاصر فيها الحيوانات في أيامنا هذه، فإن المقارنة تسقط تماماً.
يخلص البرنامج إلى أن تاريخ الأندلس قد تم تزويره في كتب التاريخ ويجب إعادة كتابته من جديد. وهذه النتيجة ينبغي أن تنسحب على كتب التاريخ والسير كافة لإعادة دراستها والكشف عن قيمتها المعرفية الحقيقية وتقييم مصادرها إذا موثوقة أم لا، فإذا لم نستطع بناء هوية صادقة وحقيقية لتاريخنا فإننا سوف نغدو بلا مستقبل، لأن البناء لا يقوم إلا على أساس متين، فإن كانت الأساسات واهنة كاذبة مفبركة فلن يصمد البناء طويلاً أما أعاصير الدهر وموجاته العاتية.//