ليست مجرّد سُلطة

الصحافة وان يراها البعض، مهنة، الا انها، أيضا، ليست وظيفة بالمعنى المعتاد، بما تعنيه كل الوظائف في هذه الدنيا، ولربما هي المهنة الوحيدة، التي لا يمكن لمن يعمل فيها، ان يستمر اذا فقد الشغف، والاحساس بالمسؤولية والدور أيضا، او فقد مذاقات السلطة، سلطة التأثير لمصلحة الناس، أولا وأخيرا.
أكملت في هذا اليوم، ستة وعشرين عاما، هنا في دارة الدستور، وكانت ايامي الأولى في الدستور مع اول أيام عام 1993، وكنت قد تخرجت من قسم الصحافة في جامعة اليرموك للتو، جئتها مجرد فتى، لا شيب في، ولا وهن.
لي فيها أساتذة كبار، تعلمت منهم الكثير، صبروا على مزاجيتي، وتقلباتي، واخطائي، وجنوحي يمينا ويسارا، وجعلوا قطاري على سكته، يوما بعد يوم، وصقلوا الحرفة في داخلي، وكانوا يقولون لي دوما ان «السر في اليمنى» في زمن كنا نكتب فيه باقلامنا، قبل ان تحتلنا التكنولوجيا.
منذ تلك الأيام حتى هذه الأيام، عشت مثل غيري، من رفاق السلاح، تقلبات كثيرة، في هذه المهنة، وكانت أيامنا حافلة بالنجاحات، والاخفاقات، وكان النجاح مرتبطا بسبق صحفي، حين كنت صحفيا اغطي شأنا سياسيا، في البرلمان او مواقع ثانية، او بإخفاق هنا، او هناك، يترك اثره الحاد عليك، وسط منافسة حادة بين الصحفيين في الصحافة الورقية، فتصحو كل صباح، وقد لكمك احدهم بخبر انفرادي، او تجعله في يوم آخر، يقفز من فراشه، على ضربة وجهتها له انت.
لا سلطة مثل سلطة الصحافة، والذي يقول لك انها السلطة الرابعة يخطئ بشدة، لكونه يتعامى عن كونها الأكثر تأثير على كل السلطات، وعلى الجمهور أيضا، وهي أيضا تقترب من حدود الرسالات، حين تتضاعف لك الحسنات فيها، ان كشفت عن خلل ما، او أثرت على قرار، او صوبت فعلا لطرف ما، فيما السيئات فيها لا تغيب، حين تخطئ، او تتورط في معلومة غير دقيقة، او تتلون كلماتك بهوى او اجندة او ميول، في فترة ما من عمرك. تمنحك هذه المهنة، سلطة فوق السلطات، تجعلك في كل مكان، وجودك في قصر هذا الزعيم، او الرئيس، او بيت الفقير او خيمته، وفي قمة عربية او إسلامية، او في البيت الأبيض، او في وسط البلد، وفي القرى والبوادي والمخيمات، او في ساحة حرب في فلسطين او العراق، وحيث وجوه الناس، بكل ما فيها من طيبة وخير وشرف، فتصب عليك هذه المهنة، توازنا شديدا، وتدرك انها هي التي فتحت لك الأبواب، وجعلتك في كل مكان، قبل اسمك، وعائلتك، وقبل حسن ظنك في نفسك، او غرورك المتدفق في مرات.
كلما اقرأ تقريرا عن مصاعب الصحافة الورقية، يدب التعب في قلبي، فقد عشنا سنوات، وصوت المطبعة نسمعه صباح مساء، وشاحنات الورق الواحدة تلو الأخرى، فوق رائحة الورق التي تصير مع قهوة الصباح، مطلع نهارك، فتحتار اذا ما كنا في الصحافة الورقية العربية والعالمية، قد اصبنا بقلة الابداع، او عدم القدرة على التجديد، او انه حال الدنيا، فيأتيك الزمن بكل ما هو جديد.
بعد هذه السنين في دارة الدستور، لا يمكن الا ان يقال ان هذه المهنة هي الوحيدة التي تجعلك تكتشف نفسك، وغيرك، على حد سواء، فالصحفي، أيا كانت رتبته، صحفيا مندوبا، او رئيسا لقسم او مديرا او كاتبا صحفيا، او رئيسا للتحرير، يمتلك من الحواس ما يتفوق على غيره، بسبب المهنة التي تغذي بصيرته، وهي أيضا، ليست مهنة المتاعب وحسب، كما يتم وصفها، بل مهنة عظيمة، تقترب من الرسالات، حين تراجع رصيدك وتعرف انك لم تضع وقتك في صياغات بائسة للخبر والتقرير والتحقيق والمقال، وانك وغيرك من صحافيين تنبهتم الى سحرها الاخاذ، وتأثيرها، من اجل التغيير الكلي او الجزئي.
لا يمكن لاي صحافة ان تستمر اذا تورطت في شهادات الزور، بحسن نية، او سوء نية، او جرّاء ضغط، او ظرف ما، واذا ما كانت هذه حالة قائمة عموما في الصحافة العربية، الا انها في الصحافة الأردنية، تبقى قليلة، برغم عتب الجمهور، وظنه اننا لا نقول الحقيقة، لكننا نقولها دوما، والفرق بيننا وبين من يريد اكثر، اننا نقولها بلطف وادب، دون مزاودة وصراخ كما لو اننا في مظاهرة.
كثيرا ما يسألني من اعرفهم اذا ما ندمت على هذه المهنة، فيما انا من بيت طبي، في الأساس، يحب ان يكون كل ابنائه أطباء او صيادلة، فأقول انني لم اندم، لكنني بحق، أود لو يعود بي الزمن، لفعلت أشياء كثيرة، مثل التي فعلتها، لكن بطريقة مختلفة، وتلك هي « الخبرة» التي هي في معناها خلاصة الأخطاء.
فرق كبير بين ان تنقش حروفك على الماء، وتظن نفسك صحافيا، فتدخل هذا البلاط وتخرج منه، دون اثر، وبين ان تحفر كلماتك في الصخر، فتبقى حاضرة ومؤثرة، وهذا هو الفرق بين صحافة وصحافة.