غياب النقابة.. محاسبة بلا مظلّة: قراءة نقدية هادئة في واقع مهنة المحاسبة بالأردن
غياب النقابة.. محاسبة بلا مظلّة: قراءة نقدية هادئة في واقع مهنة المحاسبة بالأردن
بقلم الخبير و المستشار الضريبي عيسى عبدالرحيم الحياري
في الوقت الذي تشكل فيه مهنة المحاسبة أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد الوطني، وتُعد شريكًا مباشرًا في الحوكمة والشفافية وحماية المال العام والخاص، لا يزال المحاسبون في الأردن يفتقرون إلى مظلة نقابية جامعة تنظم مهنتهم وتحمي حقوقهم وتطور أدواتهم المهنية.
هذا الغياب لا يمكن اعتباره تفصيلاً عابرًا أو مسألة تنظيمية ثانوية، بل هو فجوة مهنية متراكمة ألقت بظلالها على سوق العمل، ومستوى التأهيل، وصورة المهنة، ومستقبل آلاف الخريجين والممارسين.
- فراغ نقابي في مهنة مركزية
على مدار سنوات طويلة، بقي المحاسب الأردني خارج إطار التمثيل النقابي، بخلاف العديد من المهن الأخرى التي تتمتع بنقابات فاعلة تنظم الممارسة وتدافع عن الحقوق وتضع معايير مزاولة المهنة. وقد أدى هذا الفراغ إلى غياب جهة مرجعية تمثل المحاسبين أمام الجهات الرسمية، وتضبط إيقاع السوق، وتوازن بين متطلبات المهنة وواقع الاقتصاد.
- جمعية المحاسبين القانونيين : دور محدود بحكم الإطار
لا خلاف على أن جمعية المحاسبين القانونيين الأردنيين تؤدي دورًا مهنيًا ضمن نطاق محدد يتعلق بمهنة التدقيق والمحاسبة القانونية فهي مؤسسة قائمة منذ عام 1987 و بموجب قانون تنظيم مهنة المحاسبة القانونية المؤقت رقم (73) لسنة 2003 ، وهو دور مشروع ومهم. إلا أن الإشكالية تكمن في أن هذا الإطار لا يشمل الغالبية العظمى من المحاسبين العاملين في المؤسسات والشركات والقطاع العام و حتى العاملين لدى اعضائها، ولا يغطي احتياجاتهم المهنية والتنظيمية بما يحفظ حقوقهم و كرامتهم المهنية.
وقد طُرح في مراحل سابقة – خاصة في الفترة التي سبقت عام 2012 – تصور مهني أكثر شمولًا يقوم على إنشاء نقابة للمحاسبين، تكون الجمعية أحد فروعها المتخصصة تحت مسمى «شعبة المحاسبين القانونيين»، بما يحفظ خصوصيتها واستقلاليتها دون أن يُقصي باقي المحاسبين. غير أن هذا المسار لم يُكتب له الاكتمال.
-سوق عمل مرتبك ومهنة بلا حارس
إن غياب النقابة ترافق مع تضخم مستمر في أعداد خريجي المحاسبة، دون وجود تنظيم مهني يضبط الدخول إلى السوق أو يربط الممارسة بالتأهيل الحقيقي. فكانت النتيجة سوق عمل متخم، وأجور متدنية، وتنافس غير متكافئ، وممارسات مهنية متفاوتة الجودة.
كما ساهم ضعف التدريب المهني الممنهج، وغياب برامج تأهيل مرتبطة بسوق العمل، في تعميق الفجوة بين المعرفة الأكاديمية والمهارة التطبيقية، الأمر الذي أضر بالمحاسبين وبالجهات التي يعملون لديها على حد سواء.
-الجمعيات المهنية … تعدد بلا مظلة جامعة
شهد المشهد المهني الأردني نشوء عدد من الجمعيات المتخصصة، مثل جمعية المنابين الضريبيين، وجمعية خبراء ضريبة الدخل والمبيعات، وجمعية المدققين الداخليين و جمعيات تخصصية أخرى . وعلى الرغم من أهمية هذا التخصص، إلا أن غياب إطار جامع ينسق بين هذه الكيانات أدى إلى نوع من الشرذمة المهنية و تضارب في الاختصاص، لا تصب في مصلحة الزملاء ولا في مصلحة المهنة.
إن وجود نقابة مهنية جامعة كان من شأنه أن يشكل مظلة تنظيمية تنضوي تحتها هذه التخصصات، مع الحفاظ على خصوصية كل مجال، وتعزيز التنسيق بدل التنافس غير المنظم.
- أين يقف القطاع الرسمي؟
يبقى التساؤل مشروعًا حول دور الجهات الرسمية في معالجة هذا الملف. فحتى اليوم، لا يلاحظ وجود مبادرة واضحة أو مسار تشريعي جاد لإنهاء حالة الفراغ النقابي، رغم ما لذلك من أثر مباشر على سوق العمل، وجودة التقارير المالية، ومستوى الامتثال والحوكمة.
إن الحياد أو التعاطي المحدود مع هذه القضية ساهم في إطالة أمد المشكلة، وترك المهنة عرضة لاختلالات كان يمكن معالجتها بإطار قانوني منظم ومتوازن.
- الحاجة إلى رؤية جديدة
إن الدعوة إلى نقابة للمحاسبين لا تستهدف الإقصاء أو الهيمنة، ولا تمس بدور أي جهة قائمة، بل تقوم على فكرة تنظيمية عادلة تواكب تطور المهنة، وتحمي المحاسبين، وترفع من كفاءتهم، وتعيد الاعتبار لمهنة يفترض أن تكون في صلب القرار الاقتصادي.
فالخيار اليوم ليس بين جمعية أو نقابة، بل بين استمرار الواقع كما هو، أو الانتقال إلى تنظيم مهني ناضج يليق بمكانة المحاسبة ودورها.
خلاصة القول إن "مهنة بلا مظلة" هي "مهنة بلا صوت" والمحاسب الأردني يستحق إطارًا قانونيًا ومهنيًا يحميه، ويطوره، ويضعه في موقعه الطبيعي كشريك في التنمية لا كحلقة ضعيفة في سوق العمل. وإعادة فتح هذا الملف بروح تشاركية هادئة، بعيدًا عن الحساسية أو التخوف، باتت ضرورة لا تحتمل مزيدًا من التأجيل.