إلغاء القرار عام 1991: تنازل سياسي لا مراجعة قانونية
في 16 كانون الأول/ديسمبر 1991، وفي خضمّ التحولات الهائلة التي رافقت انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّك المنظومة الاشتراكية، أصدرت الجمعية العامة القرار 86 /46 الذي ألغى القرار 3379. إلا أن هذا الإلغاء لم يكن ناتجًا عن مراجعة للحقائق أو تقييم قانوني جديد، بل جاء في سياق دولي أعيد تشكيله بالكامل، بحيث أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد والمهيمن على النظام العالمي.
فمع سقوط الكتلة الاشتراكية، نشأت في عدد من دولها أنظمة سياسية جديدة أقرب إلى الغرب في رؤيتها، وأكثر ابتعادًا عن خطاب التحرر الوطني الذي كان يميّز الموقف السوفييتي السابق. كثير من هذه الأنظمة سعت إلى إعادة التموضع داخل النظام الدولي الجديد، ما أفقد العالم كتلة كانت تشكّل سندًا أساسيًا لقضايا الشعوب المستعمَرة، ومنها القضية الفلسطينية.
وفي الوقت ذاته، كانت المنطقة العربية تعيش تداعيات حرب الخليج الأولى التي أحدثت انقسامًا عميقًا في النظام العربي الرسمي، ودفعت بعض الدول إلى الاقتراب أكثر من واشنطن، وإظهار استعداد للتماهي مع سياساتها. هذا الانقسام شكّل أرضيّة رخوة سهلت تمرير الإلغاء.
كما سعت الولايات المتحدة، بصفتها القوة المهيمنة عالميًا، إلى خلق بيئة سياسية مناسبة لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام، وإزالة أي "عقبة معنوية” يمكن أن تُحرج"اسرائيل" أو تعيق اندفاع عملية التسوية التي رُوّج لها حينها تحت عنوان "فرصة السلام التاريخية”. ولتحقيق ذلك، مارست واشنطن ضغوطًا اقتصادية ودبلوماسية مكثفة على عشرات الدول لتغيير تصويتها، ما جعل الإلغاء تنازلًا سياسيًا صريحًا لا علاقة له بقيمة القرار الأصلية أو بصحته القانونية.
لقد عبّر إلغاء القرار 3379 عن لحظة تفوّق أمريكي غير مسبوق، لا عن أي تغيّر في طبيعة المشروع الصهيوني، الذي ظل قائمًا على العنصرية والإقصاء والإحلال، ويعيد إنتاج النموذج ذاته الذي أدانه العالم في جنوب إفريقيا.
وقد جاء التصويت على القرار بنتيجة: 111 دولة مؤيدة للإلغاء، و25 دولة معارضة، و13 دولة امتنعت عن التصويت. ومن بين الدول الـ25 التي عارضت الإلغاء، كانت هناك 13 دولة عربية، في حين تغيّبت 7 دول عن الجلسة ولم تشارك في التصويت. وفي ذلك إشارة واضحة إلى تفسّخ الموقف العربي في تلك الفترة. ويكشف هذا التوزيع حجم التحوّل الذي طرأ على خريطة التصويت الدولية مقارنة بعام 1975؛ إذ إن جزءًا كبيرًا من دول الكتلة الاشتراكية السابقة التي كانت تشكل دعمًا ثابتًا لقضايا التحرر الوطني أصبح بعد انهيارها أقرب إلى الغرب، كما أن عددًا من دول عدم الانحياز فقد زخمه السياسي بعد اختفاء التوازن الدولي الذي كان يمنحه مساحة للمناورة، في حين شهدت العديد من الدول الإفريقية تغيرات داخلية جعلت مواقفها أقل حدّة تجاه الضغوط الغربية.
إعادة الاعتبار للقرار: ضرورة وطنية ومعركة قانونية في مواجهة الأبرتهايد
بعد نحو نصف قرن، تثبت الوقائع أن القرار 3379 كان دقيقًا في توصيفه؛ فالتقارير الصادرة عن "هيومن رايتس ووتش” و"أمنستي”، ونتائج لجان التحقيق التابعة للأمم المتحدة، ورأي محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن الجدار العازل، ورأيها الحاسم عام 2024 حول عدم قانونية الاحتلال، إضافة إلى مسار المحكمة الجنائية الدولية وملف الإبادة الجماعية المنظور أمام محكمة العدل الدولية—كلها تتقاطع عند حقيقة واحدة: أن (الاحتلال الإسرائيلي) يمارس نظام فصل عنصري مكتمل الأركان ضد الشعب الفلسطيني، وأن البنية التي تحكم فلسطين هي بنية أبرتهايد واضحة ومتجذرة.
وهذا الاتساق بين الأدلة الحقوقية والقانون الدولي والوقائع الميدانية يعيد الاعتبار للقرار 3379، ويكشف أن الأمم المتحدة عام 1975 لم تكن تتحرك بدافع سياسي عابر أو في إطار حسابات ضيقة، بل كانت تسبق زمانها في تشخيص البنية الاستعمارية–العنصرية للمشروع الصهيوني وطبيعته الجوهرية.
إن اللحظة الدولية الراهنة — مع ازدياد الوعي العالمي بطبيعة النظام القائم في فلسطين، وتصاعد موجات التضامن، واتساع عزلة "إسرائيل” على خلفية جرائم الإبادة في غزة — تفتح الباب مجددًا أمام ضرورة العودة إلى الأمم المتحدة لإقرار صيغة جديدة للقرار تعيد تثبيت الطبيعة العنصرية للمشروع الصهيوني، وتعيد القضية الفلسطينية إلى موقعها الصحيح: قضية تحرر وطني في مواجهة نظام استعماري–عنصري.
إن مسارات النضال الفلسطيني متعددة؛ فالمعركة لا تُخاض في الميدان وحده، بل تمتد إلى المؤسسات الدولية — من الأمم المتحدة إلى مجلس حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية — ضمن مسار قانوني وسياسي يشكّل أداة أساسية في مواجهة الأبرتهايد وترسيخ الرواية الفلسطينية ومحاصرة المشروع الصهيوني عالميًا.
وإحياء مضمون القرار 3379 اليوم ليس خطوة رمزية، بل ضرورة وطنية وأداة قانونية يجب توظيفها لتعزيز شرعية نضال الشعب الفلسطيني داخل النظام الدولي.
لقد آن الأوان لعودة هذا القرار إلى الأمم المتحدة — بصيغة أقوى وبدعم دولي أوسع — ليُقال للعالم بوضوح:
إن الصهيونية مشروع عنصري، وإن الشعب الفلسطيني يواجه نظامًا استعماريًا يقتلع أرضه ووجوده، وإن العدالة الدولية لن تكتمل دون الاعتراف بهذه الحقيقة