إلغاء إلزامية إنهاء الخدمة: قرار يجمّد الوظائف ويدفع ثمنه الشباب

خلدون خالد الشقران

إلغاء إلزامية إنهاء الخدمة: قرار يجمّد الوظائف ويدفع ثمنه الشباب


في توقيت اقتصادي واجتماعي بالغ الحساسية، قرر مجلس الوزراء الأردني إيقاف العمل بالقرارات التي كانت تُلزِم بإنهاء خدمات موظفي القطاع العام ممن بلغت مدة خدمتهم 30 سنة فأكثر، أو وصلوا إلى 360 اشتراكًا في الضمان الاجتماعي، مانحًا المؤسسات الحكومية صلاحية الإبقاء على الموظف أو إنهاء خدمته وفق ما تصفه بالحاجة الفعلية. القرار قُدِّم رسميًا بوصفه خطوة تهدف إلى الحفاظ على الخبرات ومنح مرونة إدارية أكبر، إلا أن القراءة الواقعية له تكشف أنه يفتح الباب أمام تجميد الوظائف العامة، ويعيد إنتاج أزمة البطالة بدل التعامل معها من جذورها، في دولة تعاني أصلًا من اختلالات واضحة في سوق العمل.


الأردن لا يواجه فائضًا في الوظائف، ولا نقصًا في طالبي العمل، بل يعاني من معدلات بطالة مرتفعة، خصوصًا بين الشباب وخريجي الجامعات، وهي معضلة اقتصادية واجتماعية موثقة في تقارير رسمية ودراسات وطنية. وفي هذا السياق، فإن أي قرار يُبقي الوظيفة مشغولة لسنوات إضافية دون فتح مسارات توظيف موازية، يعني عمليًا إغلاق الباب أمام آلاف الباحثين عن عمل، وتحميل المجتمع كلفة إدارية كان يفترض أن تتحملها السياسات العامة. سياسات تحديد سقف الخدمة، رغم ما أثارته من جدل، كانت تؤدي دورًا واضحًا في تحريك التدوير الوظيفي داخل القطاع العام وخلق شواغر دورية تتيح دخول دماء جديدة إلى الجهاز الحكومي. التراجع عنها اليوم لا يمكن فصله عن تعميق حالة الانسداد في سوق العمل.

تقارير ومراكز الدراسات الاقتصادية  المتواجدة داخل الأردن حذّرت في أكثر من مناسبة من أن تجميد التدوير الوظيفي داخل القطاع العام يؤدي إلى تفاقم البطالة ولا يساهم في استقرارها، بل يحوّل المؤسسات الحكومية إلى هياكل مغلقة تعيد إنتاج نفسها دون تجديد، وتفقد تدريجيًا قدرتها على مواكبة التحولات الإدارية والتكنولوجية.


في المقابل، يروّج البعض لفكرة أن إبقاء الموظف في عمله لفترة أطول يخفف الضغط عن صندوق الضمان الاجتماعي، إلا أن هذه المقاربة تبقى جزئية وقصيرة النظر. تقارير صندوق النقد الدولي حول الأردن تشير بوضوح إلى أن نظام الضمان الاجتماعي يواجه تحديات استدامة حقيقية إذا لم تُربط سياسات التوظيف والتقاعد بإصلاحات هيكلية متكاملة، لا بمعالجات مؤقتة تؤجل المشكلة ولا تحلها. إبقاء الموظفين لفترات أطول يعني زيادة عدد المستفيدين من الرواتب التقاعدية مستقبلًا، في مقابل سوق عمل راكد يقلّ فيه عدد المشتركين الجدد، ما يفاقم الفجوة المالية على المدى المتوسط والبعيد.


ولا يمكن تجاهل الأثر الإداري لهذا القرار على كفاءة الجهاز الحكومي. فالخبرة قيمة حقيقية حين تُدار ضمن إطار مؤسسي واضح، لكنها تتحول إلى عبء عندما تُستخدم كذريعة دائمة لإغلاق المواقع الوظيفية ومنع التجديد. التحديث الإداري لا يتحقق بإطالة أمد شغل الوظائف نفسها، بل بإيجاد توازن بين الخبرة المتراكمة والدماء الجديدة، وبين الاستقرار الوظيفي والحيوية المؤسسية. كما أن منح المؤسسات حرية غير مقننة في إنهاء أو تمديد الخدمة يفتح الباب أمام تفاوت في القرارات، ويضعف مبدأ العدالة الوظيفية وتكافؤ الفرص داخل القطاع العام.

أما على المستوى المالي، فإن الحديث عن ضبط النفقات لا يستقيم مع واقع أن إطالة الخدمة تعني استمرار الرواتب المرتفعة والامتيازات الوظيفية، بدل إعادة هيكلة الجهاز الإداري وتوجيه الموارد نحو قطاعات إنتاجية وتشغيلية قادرة على خلق فرص عمل حقيقية. وفي ظل الضغوط المستمرة على الموازنة العامة، يصبح هذا القرار جزءًا من إشكالية أوسع تتعلق بكلفة الإدارة العامة وكفاءتها، لا مجرد إجراء إداري معزول.

في المحصلة، لا يمكن التعامل مع إيقاف إلزامية إنهاء الخدمة على أنه قرار تقني أو إداري محدود الأثر. فهو سياسة عامة تمسّ جوهر سوق العمل، ومستقبل البطالة، واستدامة الضمان الاجتماعي، وكفاءة الجهاز الحكومي. وما لم يُربط هذا القرار بخطة وطنية واضحة للتوظيف والتدوير الوظيفي والإصلاح المؤسسي، فإنه لا يشكّل تحديثًا للقطاع العام، بل تأجيلًا للأزمة وترحيلًا لتكلفتها إلى المجتمع، وتحديدًا إلى فئة الشباب التي تدفع ثمن السياسات المرتبكة منذ سنوات.