سيكولوجية الأردني

أ.د سلطان المعاني

أدِرْ النظرَ في الأردنيّ قبل أن تُديره في تعريفٍ جاهز؛ ستجد نفسًا صاغتها جهةٌ تُشبه العقدة في عنق الجغرافيا: هنا طريقٌ قديمٌ يمرّ ويعود، وهنا موضعٌ يراقب الممرّ ويحميه، وهنا أرضٌ تتعوّد أن تعيش على الحدّ الفاصل بين الاستقرار والترحال. من هذا الامتحان الطويل يتكوّن مزاجٌ خاص: قدرةٌ على استقبال القادم بوصفه احتمالَ خير، وقدرةٌ على شدّ القبضة حين يُشمّ رائحةُ تهديد. الأردنيّ ابنُ بوابةٍ تاريخية؛ والبوابة تعلّم صاحبها فنّين متجاورين: حسنَ الفتح، وحسنَ الحراسة.

حين ينظر المرء إلى العمق المعرفي لهذا البلد، يلتقي "تاريخًاويلتقي أثرًا يسكن العقل الجمعي كما تسكن الندبةُ جسدًا تعافى ولم ينسَ. من الحجر الذي حفظ أوّل أشكال السكن، إلى المعدن الذي أعلن تحولًا في أدوات العمل والقتال والتبادل، إلى تعاقب الحضارات على المكان، تتراكم خبرةٌ صامتة تقول للأردني: الأرض قديمة بقدمك، والمرور فيها كثير، وما يبقى في النهاية هو السيرة الحسنة والاسم المستقيم. لذلك تتجذّر حساسيةٌ عالية تجاه "الأثر”: حجرٌفي مكانه يعني معنى، مقامٌ يعني عهدًا، قبرُ شهيدٍ يعني وصيةً أخلاقية تُرَبّي السلوك وتشدّ الظهر. هذا الميل إلى تقديس العلامات لا يأتي من تديّنٍ شكليّ، يأتي من إدراكٍ عميق أن الذاكرة هي جهازُ المناعة في مجتمعٍ عبرته الرياح مرارًا.

وتحت سقف العربية، يتشكل التنوع الأردني بوصفه تمرينًا يوميًا على الجمع دون ذوبان. في الأردني قابليةٌ فطرية للتماهي مع الآخر من دون أن يفقد نبرته. يقترب، يسأل، يطمئن، ثم يضع مسافةً محترمة حول ما يعدّه "هيبةًأو "حقًاأو "كرامةً”. هذهالعلاقة الدقيقة بين القرب والمسافة من مفاتيح السايكولوجيا الأردنية: فالجغرافيا التي صنعت الأردن ملتقى، صنعت معه حسًّا يقيس الناس بحدسٍ سريع؛ يقرأ العيون، يقرأ النبرة، يقرأ طريقة الجلوس، ثم يقرر مقدار ما يمنحه من الثقة. ولهذا يبدو الأردني ودودًا من الباب الأول، متيقظًا من الداخل، ولا يتأخر في تحويل التوجس إلى حماية حين يرى أن المودة تُستغل.

البيئة بمقدراتها المحدودة صنعت في الأردني أخلاقَ اقتصادٍ لا علاقة له بالبخل، وعفةً لا علاقة لها بالتظاهر. يتعلم المرء هنا أن الكماليات تتبدد أولًا، وأن الجسد يعتاد القليل، وأن الكرامة تحفظ الإنسان حين تخونه الأشياء. ومن هنا يخرج ذلك التناقض الجميل الذي يحير الغرباء: موارد بسيطة، سخاء واسع؛ شحّ في الإمكانات، غنى في المعنى. الإيثار عند الأردني ليس صورةً لطيفة، هو أسلوب نجاة اجتماعي: حين تشتد الأيام، يشتد معنى الجار، ويعلو مقام "السترة، وتتحول المساعدة إلى شبكة أمان تحفظ المجتمع من الانكسار. لذلك يقدّم الأردني وهو يعرف حسابه، يكرم وهو يدرك حدوده، ثم يعود إلى بيته راضيًا كأنه أنجز واجبًا لا تفضّلًا.

ومن الناحية النفسية، يمكن وصف الأردني بأنه صاحب "قلبٍ مفتوحفي العادي، وصاحب "خطّ أحمرفي الجوهري. يستقبل بابتسامة لأن الابتسامة هنا إعلان سلام، ويستقبل بقهوة لأن القهوة عقدٌ اجتماعي يختصر السؤال والطمأنة ويمنح اللقاء إيقاعه. وراء هذا الدفء عملٌ داخلي: رغبةٌ في تطمين الآخر، ورغبةٌ أعمق في اختبار الآخر من دون صدام. هذا النوع من الذكاء الاجتماعي ينشأ في مجتمعات تعرف قيمة الاستقرار وتعرف هشاشته: فالاستقرار هنا مكسبٌ يُصان بالأدب وبالتهذيب وبحسن التقدير، وحين يهتزّ المكسب يتقدم الصبر، ثم يتقدم الحزم.

وعند الحزم تظهر صورة الأردني التي يُخطئ بعضهم في فهمها: لا يقبل الدنيّة. يسامح في حقوقه الشخصية كثيرًا، يتغاضى عن زلات العابرين، يقبل الاعتذار حين يرى صدقه، غير أن الإهانة عنده ليست تفصيلًا لغويًا؛ الإهانة اعتداء على المعنى الذي يمسك حياته من الداخل. الكرامة في المخيال الأردني ليست مفردة خطابية، هي عمود البيت: إن انكسر العمود سقط السقف على الجميع. لذلك حين تقف في الطرف المقابل مصادمًا، ترى سدًا منيعًا: صمتًا يسبق الكلام، عينًا تثبت، نبرةً تتصلّب، وإصرارًا يفهم أن المنية أولى من الدنية. هنا ينكشف معدنٌ تربّى طويلًا على فكرة: أن الإنسان بلا كرامة ظلٌّ بلا أصل.

ومع كل ذلك، تبقى السايكولوجيا الأردنية في جوهرها سايكولوجيا "ملجأ”: ملتقىلكل زائر، ملاذ لكل ملهوف، ومكانٌ يأنس بفكرة الإيواء كما يأنس بفكرة الحراسة. هذا البلد تعلّم عبر تاريخه أن يفتح ذراعيه للضيوف، وأن يشدّ قامته حين تقترب العاصفة. لذلك يخرج الأردني إلى العالم بصيغةٍ نادرة: رقةٌ لا تستجدي، قوةٌ لا تتبجح، قناعةٌ لا تتذلل، وكرامةٌ ترفض أن تُشترى. هذه هي النفس التي صاغها المكان: قلبٌ على البابويدٌ على القفل.