العلاقات العربية الأمريكية: هل أصبحت الأمور أوضح؟
حاتم النعيمات
سلسلة من البيانات القوية التي صدرت عن الأردن ومصر والسعودية والإمارات وغيرها من الدول العربية فيما يخص التصريحات التي أُطلقت بطريقة استفزازية لا تخلو من "الفانتازيا" السياسية من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولقراءة تطورات السلوك العربي، علينا أن نسرد لمحة عن التغيرات التي شهدتها العلاقة العربية-الأمريكية وبدايات تصدعها. البداية كانت بعد غزو العراق وترك المنطقة لمواجهة الفوضى التي ندفع ثمنها لغاية اليوم، ثم ازداد هذا الصدع اتساعًا بعد تحالف واشنطن مع الإسلام السياسي فيما سمي بالربيع العربي، هذا "الربيع" الذي استهدف العديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة وحاول إسقاطها. هذا الصدع كان مقبولًا قبل الوصول إلى السابع من أكتوبر الذي أثار في عمق التفكير العربي دوافعًا لإعادة تقييم مدى الثقة بالولايات المتحدة كحليف. لذلك بدأنا نرى بعض الدول العربية تجنح إلى خلق مساحات "احتياطية" في العلاقة مع الولايات المتحدة؛ فكان هناك من توجّه إلى تكتل البريكس الاقتصادي، ثم بدأنا نشهد تنويعًا في التسليح العسكري، ودخلت الصين وروسيا على خط العلاقات في عدة مجالات.
بشكلٍ عام، تَبِع الربيع العربي حالة من مُلفتة من التقلّب في السياسة الخارجية الأمريكية والتي بدورها زادت الطين بلة، فقد أصبح تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها واتفاقياتها مع الدول العربية تبعًا للحزب الذي يتقلد السلطة في واشنطن أكثر وضوحًا، والأمثلة كثيرة على ذلك، حيث ظهر هذا التقلُّب جليًا -على سبيل المثال لا الحصر- في تعامل الولايات المتحدة مع ملف السابع من أكتوبر بشكل خاص والقضية الفلسطينية بشكل عام، ومع إيران وأذرعها ومشروعها النووي وغيرها من الملفات.
كل ذلك نتج عنه تغيرات إيجابية وجذرية في التعامل العربي مع الولايات المتحدة؛ لذلك شهدنا مؤخرًا أن هناك حركة جماعية عربية تسعى لوضع مصالح واشنطن على الطاولة "بالجملة"، وهذا بتقديري هو السبيل الأمثل للضغط من أجل التخفيف -على الأقل- من اتساع موجة التذبذب في السياسة الخارجية الأمريكية.
الأردن ومصر والسعودية هي دول التماس مع القضية الفلسطينية بحكم الجغرافيا، وهذه الدول تملك علاقات قوية مع الولايات المتحدة بالإضافة إلى طيف واسع من المصالح، وعليه فمن الضروري أن تشكل هذه الدول الثلاثة نواة التحرك العربي الشامل ضد السياسة الأمريكية والعنجهية الإسرائيلية معًا، وبأسلوب جديد يمثل التوافق العربي الكامل ويعكس ما تراكم من خبرة.
الأرض مقابل السلام والتطبيع، هذا هو جوهر التحرك العربي بقيادة دول التماس الثلاث، وقد يقول قائل أن هذا الطرح مطروح سابقًا تحت عنوان المبادرة العربية التي أطلقت من الرياض عام 2002، بالتالي فإن إعادة طرحه شكل من أشكال العبث، وهذا القول صحيح إذا ما نزعنا الظروف الجديدة التي طرأت على العلاقات العربية الأمريكية في العقدين الأخيرين، فهذه الظروف أصبحت مختلفًا كليًا؛ فالمبادرة العربية أُطلقت عندما كانت مستويات الثقة بين العرب والولايات المتحدة مرتفعة وفي أحسن حالاتها، وذلك قبل أن تتأثر هذه العلاقة بما ذكرناه آنفًا.
اتفاقيات السلام بين كل من الأردن وإسرائيل من جهة ومصر وإسرائيل من جهة أخرى تعتبر أثمن الأوراق التي يمكن استخدامها للضغط، فهاتين الاتفاقيتين لهما قيمة عالية في العقل السياسي الإسرائيلي، وإلغاء أي منهما أو كلتاهما يعني الدخول في ترتيبات أمنية وعسكرية ضاغطة على تل أبيب، ترتيبات تخشاها العقلية الأمنية الإسرائيلية، وتدرك أنها قد تصل إلى مواجهة عسكرية وربما شعبية على المدى البعيد.
في الخلاصة، اليوم لدينا وعي عربي أكثر، وجرأة أكبر، ولدينا إسرائيل التي وصلت إلى أقصى ما يمكن فعله مع الفلسطينيين بعد الجرائم التي ارتكبتها مؤخرًا في غزة والضفة، وبعد أن اصطدمت برفض التهجير الأردني المصري القاطع، ولدينا في المقابل عقلية تجارية تعمل على مبدأ الربح والخسارة في واشنطن، هذه العقلية تشجع بالفعل على مبدأ طرح المصالح الأمريكية مع العرب بالجملة، بالتالي، أعتقد أن الأمور تتجه إلى تفكيك عُقد تاريخية قد ينتج عنها حلول لا يتوقعها البعض.