ماذا يحدث للمشاريع النووية في العالم؟
د. أيوب أبودية
تراجعت مشاريع الطاقة النووية في العديد من الدول حول العالم خلال العقود الأخيرة، ويعزى هذا التراجع إلى مجموعة من العوامل التي تتضمن المخاوف البيئية، وارتفاع تكاليف الإنشاء والتشغيل، والحوادث النووية التاريخية، والتلويث الناجم عن تعدين اليورانيوم، ومشكلات تخزين ومعالجة النفايات النووية، إضافة إلى التوجهات السياسية والتنظيمية المتغيرة. ,فيما يلي تفصيل لأسباب هذا التراجع مع أمثلة من ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، واليابان، والولايات المتحدة، إضافة إلى استثناء ملحوظ هو الصين التي ما زالت تستمر في الاستثمار في الطاقة النووية.
ألمانيا تُعد مثالاً بارزاً على التراجع في الطاقة النووية، فقد قررت الحكومة الألمانية في عام 2011، بعد كارثة فوكوشيما النووية في اليابان، تسريع خطط إغلاق محطاتها النووية. واتخذت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قراراً تاريخياً بالخروج التدرجي من الطاقة النووية بحلول عام 2022، وأغلقت بالفعل ما تبقى منمحطاتها النووية في نيسان من عام 2022. وتتوجه ألمانيا الآن نحو الطاقات المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، وتستثمر بكثافة في البنية التحتية للطاقة الخضراء.
وبالرغم من أن فرنسا تعتمد اليوم على نحو نصف كهربائها من الطاقة النووية إلا أنها قبل عقود كانت تعتمد عليها في أكثر من 80% من احتياجاتها من الكهرباء، ولكنها باتت تواجه تحديات متزايدة فيما يتعلق بتكاليف الصيانة، ورفع عامل الأمان بعد كارثة فوكوشيما، وتحديث البنية التحتية القديمة لمحطاتها النووية. كذلك، شهدت فرنسا نقاشات حول تقليل اعتمادها على الطاقة النووية بسبب المخاوف البيئية والسياسية.
ففي عام 2015، وضعت الحكومة الفرنسية هدفًا لخفض اعتماد البلاد على الطاقة النووية إلى حوالي 50% بحلول عام 2025، لكن هذا الجدول الزمني تأجل لأسباب عملية واقتصادية. ومع ذلك، تستمر فرنسا في تشغيل مفاعلاتها الحالية ولكن بتوجه أكبر نحو الاستثمار في الطاقات المتجددة.أنتجت الطاقة النووية الفرنسية 279 تيراواط.ساعة فقط من الكهرباء عام 2022 مقارنة بما مقداره 430 تيراواط.ساعة في عام 2005، أي بتراجع مقداره نحو 36%.
وفي بريطانيا، بالرغم من أن الحكومة لا تزال تدعم الطاقة النووية كجزء من استراتيجيتها للطاقة النظيفة، فإن مشروع إنشاء محطة نووية يتيمة جديدة مثل محطة هينكلي بوينت سي تواجه تأخيرات وتكاليف مرتفعة بشكل كبير، مما يؤدي إلى قلق المستثمرين والمجتمع من جدوى هذه المشاريع. كذلك تواجه بريطانيا أيضًا صعوبات في العثور على مستثمرين، حيث تفضل بعض الشركات العالمية الابتعاد عن الاستثمار في مشاريع الطاقة النووية بسبب المخاطر المالية والتنظيمية العالية.أنتجت الطاقة النووية البريطانية 38 تيراواط.ساعة فقط من الكهرباء عام 2023 مقارنة بما مقداره 75 تيراواط.ساعة في عام 2004، أي بتراجع مقداره نحو 50%.
وبعد كارثة فوكوشيما النووية عام 2011، اتخذت اليابان قرارًا بتعليق عمل معظم مفاعلاتها النووية، وأعادت التفكير في اعتمادها على الطاقة النووية. تبنت الحكومة سياسات أكثر صرامة للأمان النووي وأعادت تشغيل بعض المفاعلات بعد إجراء تحسينات كلفتها المليارات من الدولارات، لكن الطاقة النووية أصبحت غير محبذة شعبياً وسياسياً، مما جعل التوسع في هذا المجال أقل جاذبية. اعتمدت اليابان بشكل أكبر على استيراد الوقود الأحفوري وزيادة استثماراتها في الطاقة المتجددة، فانخفضت مشاركة الكهرباء النووية من 25% عام 2010 إلى نحو 6 % عام 2022.
في الولايات المتحدة، تعتبر الطاقة النووية مصدرًا مهمًا للطاقة، لكن قطاع الطاقة النووية يواجه صعوبات كبيرة تتعلق بالتكلفة وبتقادم المحطات النووية الحالية، خاصة بعد حادثة جزيرة الأميال الثلاث النووية عام 1979. حيث تتطلب المحطات الجديدة استثمارات ضخمة، وباتت تواجه مقاومة من بعض الولايات والمجتمعات المحلية بسبب المخاوف البيئية والأمنية. وقد أدى توفر الغاز الطبيعي بكثرة وبأسعار منخفضة إلى تقليل الجدوى الاقتصادية للطاقة النووية، مما أدى إلى تباطؤ مشاريع التوسع في هذا القطاع. كذلك أدت نجاحات الطاقة المتجددة في بعض الولايات، مثل كاليفورنيا، إلى تشجيع الولايات الأخرى في هذا الاتجاه. إذ تجاوزت مساهمة الطاقة المتجددة في كاليفورنيا 54% مؤخرا.
وبخلاف معظم الدول، تواصل الصين استثمارها الكبير في قطاع الطاقة النووية، وهي تبني محطات نووية جديدة بوتيرة سريعة. وتعزز الحكومة الصينية من اعتمادها على الطاقة النووية كوسيلة لتقليل الاعتماد على الفحم والحد من انبعاثات الكربون ضمن استراتيجيتها للحد من التلوث البيئي وتحقيق أهدافها المناخية. وتتبنى الصين سياسات حكومية داعمة وتوفر استثمارات ضخمة مما جعلها رائدة في بناء وتشغيل المحطات النووية الجديدة غير عابئة بالمخاطر البيئية، وفي ذهنها السباق الاقتصادي على صعيد عالمي وحسب .
وبناء عليه، يمكن تلخيص أسباب تراجع مشاريع الطاقة النووية عالميًا، باستثناء الصين، بالمخاوف البيئية والكوارث مثل تشيرنوبل وفوكوشيما، التي أثرت على السياسات العامة وزادت من مقاومة المجتمعات المحلية، خاصة بعد انكشاف مخاطر الحروب، كما حدث في محطة زاباروجيا في الحرب الأوكرانية الأخيرة التي ما زالت ملتهبة، فضلا عن أن إنشاء محطات نووية جديدة وتشغيل يعتبر مكلفًا جدًا، مع تأخر غالبية المشاريع وتجاوزها للميزانيات المحددة، وبسبب توفر بدائل أقل تكلفة وأكثر أمنا، مثل الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة التي غدت أكثر قبولاً بيئيًا وسياسيًا واقتصاديا واجتماعيا.