لقد أضحى التافه سيدًا.. والمفكر طريدا

خليل النظامي

كان رجالات الأمة العربية والاسلامية في الماضي رواد المعرفة وأهل الابتكار، أسسوا علم الجبر على يد الخوارزمي، وأرسوا قواعد الطب مع ابن سينا، وعززوا علوم الفلك والجغرافيا على يد البيروني وابن بطوطة، وكان حينها العصر الذهبي للإسلام يتسم بإنتاج معرفي عميق ومتجدد، أضاف إلى الحضارة الإنسانية أساسات علمية وفكرية بقيت لقرون وما زالت اساس العلوم لوقتنا الحالي.
أما اليوم فقد أصبح السواد الأعظم من العرب والمسلمين مستهلكين للمحتوى بدلًا من منتجيه، وطغى الاستعراض والاهتمام بالشهرة السريعة على السعي للعلم والإنتاج الحقيقي، معتمدين على الاستيراد الفكري بدل الاكتفاء بمواردهم الفكرية.
ولو كان أفلاطون وسقراط وأرسطو وابن خلدون بيننا اليوم لأصابتهم الدهشة والهلع والصدمة مما سيرون، فماذا سيقول أفلاطون الذي تخيل مدينة فاضلة تحكمها الفلسفة والعقل أمام عالَم تتحكم فيه التفاهات والشهرة العابرة.. وماذا سيفعل سقراط الذي آمن بضرورة التساؤل و"معرفة النفس" في وقت نرى قشوريات وسطحيات الأسئلة تتمحور حول المظهر لا الجوهر.. وأي أسف سيمارسه رائد الفكر العلمي ارسطو على العقول التي انصرفت عن البحث والمعرفة الى الاستعراض المفرغ.. وأي جنون سيصيب ابن خلدون الذي أسس علم الاجتماع السلوكي وهو يرى منصات التواصل الاجتماعي المختلفة نذير تتراجع فيه الحضارة ويسيطر الاستهلاك على البناء المعرفي، وكأننا بتنا نعيش في زمن انهيار فكري متسارع.
الى ذلك، يبدو أن "الأعور الدجال" لم يعد مجرد شخصية في الروايات، بل أصبح كيانًا حيًا يتجول بيننا، أطلقت عليه اسم منصات التواصل الاجتماعي، هذه الحواضن التي باتت رمزًا للتمجيد المزيف والاستعراض اللامتناهي، وأصبحت تهدد العقول بمحتواها السطحي، تاركة العلم وأهله في ظلال النسيان.
تأملوا معي اصدقائي، شاب يلتقط صورة له أمام مرآة الصالة الرياضية، أو فتاة تصور فنجان القهوة بألف زاوية وزاوية لتثبت لمتابعيها أنها تجيد فن صناعة مشروب "اللاتية"، ومن هناك تظهر مستعرضة بتضاريسها الجسدية تعرض منتجات فاسدة تحصد الاف المعجين والمتابعين في غضون دقائق معدودة.. هؤلاء هم صنّاع المحتوى، النجوم الذين أصبحوا يحظون بإعجاب لا ينتهي من قبل السواد الاعظم من الجماهير في وقت بات العلماء والمفكرون يسعون بصعوبة لنشر مقالاتهم العلمية والمعرفية ولا تجد مهتم أو متابع.
في المقابل، تخيلوا معي أكاديميًا يحاضر عن الذكاء الاصطناعي أو الابتكار في العلوم العلمية، يجتهد لسنوات يتعب ويكتب ويبحث لا يجد من يعزز ويقدر ويستفيد من مجهوده العلمي والمعرفي، في وقت تجد "المستعرض" الذي يقرأ "أفكار العشاق من الأبراج الوهمية" يحصد الآلاف من الإعجابات خلال دقائق، وكأنه "أينشتاين عصره" في أمور العلاقات العاطفية.
نحن نعيش في عصر لا يكافئ العبقرية أو الجد والاجتهاد، بل يكافئ تلك القدرة العجيبة على التصنع بلا حرج، اذ أصبح العالم يغني ويصفق للسطحية، ويقف منبهرًا أمام أبطالها، في الوقت الذي يعتبر فيه أهل الفكر والجدية كائنات انقرضت من ماض سحيق، وينعتونهم بـ إنهم يمارسون الترف العقلي، بينما الجماهير تريد شيئًا خفيفًا شيئًا لطيفًا مثل سحابة على شكل قلب، شيئا يثير ويشبع غرائزهم وشهواتهم.
ولا عجب أن أصبح الناس يرون أن الطريق إلى الشهرة لا يمر عبر البحث أو الاكتشاف أو نشر الفائدة، بل عبر استعراض الجسد والممتلكات، ففي هذه الحواضن الاتصالية الرقمية بات العلم والعقل كـ المتهم الذي لا يجد من ينصفه في دار القضاء، فـ الأسئلة العلمية والفكرية تفتقر للأضواء، بينما تحظى التفاهات والاغراء بأضواء النجومية،
هذا زمن "صناعة التفاهة"، كما وصفها "آلان دونو"، فقد اصبحت منصات التواصل الاجتماعي مصنع ضخم يُنتج ويصدر التافهين بالعشرات، بدون اشتراط الشهادات العلمية أو الإنجازات المعرفية، وكل ما يحتاجه الأمر شيئان.. مهارة الاستعراض وخفة المحتوى، وكأننا في "أكاديمية التافهين"، يتخرج الطلبة منها بشهادات في "التصوير الذاتي" وكيف تتحدث دون أن تقول شيئًا.
المسألة لم تعد في من يمتلك القدرة على صنع شيء عظيم، بل فيمن يستطيع أن يبهر الناس بلا شيء على الإطلاق، فعذرًا يا أهل العلم، فإن أعين الأمة العربية والاسلامية معصوبة بالوهم، و"الأعور الدجال" حاضر يلقنهم درسًا في أهمية اللا شيء.