اللغة الأم للحكومات والمؤسسات
اللغة الأم للحكومات والمؤسسات
صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية
في عالمنا المعاصر، الذي يتغير بوتيرة غير مسبوقة، أصبحت التكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، القوة الدافعة الأساسية للتحولات التي تشهدها المؤسسات. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية تُستخدم لتحسين العمليات، بل أصبح عنصرًا استراتيجيًا حاسمًا لضمان استمرارية المؤسسات وقدرتها على البقاء في منافسة شرسة. فالمؤسسات التي تسعى لتحقيق النجاح في هذا العصر الرقمي تجد نفسها ملزمة بتبني حلول الذكاء الاصطناعي ليس فقط كأداة تكنولوجية، بل كلغة أساسية تعزز الأداء وتضمن الاستدامة.
خلال حضوري لمحاضرة في "كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية"، ألقى الأستاذ بشار الكيلاني الضوء على الدور الحيوي الذي يلعبه المنصب الجديد في المؤسسات وهو "المدير التنفيذي للذكاء الاصطناعي (Chief AI Officer) " في إعادة تشكيل المؤسسات وتوجيهها نحو مستقبل رقمي مزدهر. في حديثه، أكد الكيلاني على أهمية هذا الدور ليس فقط كخبير تقني، بل كقائد استراتيجي مسؤول عن دمج الذكاء الاصطناعي في جميع جوانب المؤسسة. وأوضح أن الهدف ليس مجرد استخدام التكنولوجيا بشكل موسمي، بل تحويل الذكاء الاصطناعي إلى "اللغة الأم" للمؤسسة. تمامًا كما يتحدث الناس لغتهم الأم بطلاقة دون مجهود، يجب أن يصبح استخدام الذكاء الاصطناعي طبيعيًا للجميع في المؤسسة، حيث يُستخدم بشكل يومي لتحليل البيانات واتخاذ القرارات وحل المشكلات.
الذكاء الاصطناعي لم يعد محصورًا في أقسام تقنية المعلومات، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من عمليات اتخاذ القرار في جميع مستويات المؤسسة. يتيح هذا التحول للمؤسسات القدرة على تحسين مخرجاتها بشكل كبير. بغض النظر عن نوعية هذه المخرجات، سواء كانت تجارية أو أمنية أو خدمية، فإن الذكاء الاصطناعي يوفر أدوات متقدمة تساعد المؤسسات على تحسين كفاءتها التشغيلية، وتزيد من قدرتها على التكيف مع التغيرات السريعة في الأسواق. هذا التحول يمكّن المؤسسات من الاستفادة الكاملة من البيانات والتحليلات المتقدمة، ما يسمح لها باتخاذ قرارات دقيقة وسريعة، وهو ما يعد ميزة تنافسية حاسمة في عصر يعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا.
لكن التحول الرقمي لا يتوقف عند حدود تحسين الكفاءة التشغيلية فقط. الأستاذ الكيلاني تناول أيضًا جانبًا بالغ الأهمية، وهو المسؤولية الأخلاقية التي يجب أن ترافق استخدام الذكاء الاصطناعي. فالذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون مجرد أداة باردة لتحقيق الربح أو تحسين الأداء، بل يجب أن يُستخدم بشكل مسؤول يضمن الشفافية والعدالة. يجب على المؤسسات التي تتبنى هذه التكنولوجيا أن تتأكد من أن الأنظمة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لا تنحرف لتصبح متحيزة أو تسبب أضرارًا اجتماعية. على العكس، يجب أن تعزز هذه الأنظمة القيم الإنسانية وتكون أدوات لتحقيق المساواة والإنصاف.
في هذا السياق، يظهر دور المدير التنفيذي للذكاء الاصطناعي كقائد استراتيجي مسؤول عن ضمان تحقيق هذه التوازنات الدقيقة. إنه الشخص الذي يرسم خارطة الطريق الرقمية للمؤسسة، ويضمن أن المؤسسة ليست فقط قادرة على استخدام الذكاء الاصطناعي، بل تستخدمه بطريقة تحقق الاستدامة والابتكار. من خلال مراقبة التوجهات العالمية في التكنولوجيا، والتأكد من تطبيق حلول مبتكرة، يساهم المدير التنفيذي للذكاء الاصطناعي في بناء مؤسسات تتسم بالرشاقة والقدرة على التكيف مع التحولات الرقمية السريعة. إن التحديات التي تواجه المؤسسات اليوم لم تعد فقط في كيفية تحقيق الربح، بل في كيفية الحفاظ على استدامة النجاح في ظل بيئة تكنولوجية دائمة التغير.
تعد دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا رياديًا في استشراف المستقبل وتبني الذكاء الاصطناعي كركيزة أساسية لبناء مستقبل مستدام. كانت الإمارات من أوائل الدول التي أدركت أهمية الذكاء الاصطناعي وضرورة دمجه في مختلف المجالات لتحقيق التنمية والابتكار. ومن أبرز خطواتها في هذا الاتجاه، استحداث منصب وزير الذكاء الاصطناعي وتعيين رؤساء تنفيذيين للذكاء الاصطناعي في الوزارات والهيئات الحكومية، مما يؤكد التزامها بتحويل التكنولوجيا إلى أداة رئيسية لرفع كفاءة العمل الحكومي وتعزيز التنافسية.
هذه المبادرات ليست مجرد قرارات تقنية، بل تأتي في إطار رؤية استراتيجية طموحة تهدف إلى وضع الإمارات في مصاف الدول الرائدة في استخدام الذكاء الاصطناعي عالميًا. وتسعى الدولة إلى دمج هذه التقنية في كافة القطاعات الحكومية، مما يعزز من قدرتها على الابتكار، ويرسخ مكانتها كلاعب رئيسي في الاقتصاد الرقمي العالمي.
وكما قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "قامت دولة الإمارات على فكر تطويري مستدام، يتبنى التحديث المستمر لنماذج العمل الحكومي وابتكار حلول جديدة، تعزز وتيرة العمل والإنتاجية والإنجاز، وتحدث نقلات نوعية في الأداء لتكون حكومة الإمارات الأفضل والأكفأ والأكثر جاهزية للمستقبل على مستوى العالم." وأكد أن الاستثمار في الإنسان الإماراتي وتنمية العقول والمواهب الوطنية هو استثمار في المستقبل، وهو الرهان الأكيد لضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الحاسم: هل نحن مستعدون لمستقبل يعتمد بشكل كامل على الذكاء الاصطناعي؟ في دولة الإمارات، الإجابة تبدو واضحة: نعم. من خلال تبني استراتيجيات رقمية رائدة وتعيين قادة ذوي رؤية، نجحت الإمارات في وضع نفسها في طليعة الدول المستعدة لمواجهة التحديات الرقمية والاستفادة من الفرص التي يحملها الذكاء الاصطناعي. هذا التحول ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة حتمية لكل مؤسسة تسعى للبقاء في طليعة المنافسة وتحقيق الاستدامة في عالم يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا.
أي مؤسسة ترغب في النجاح في هذا العالم الرقمي يجب أن تتبنى الذكاء الاصطناعي كجزء لا يتجزأ من استراتيجيتها وعملياتها اليومية، وأن تعمل على تحقيق التوازن بين الابتكار والمسؤولية الاجتماعية.