الأسير محمد سعيد اغبارية... وعي الإنسان بكرامته حقّ مقدّس...

- منذ احتلال إسرائيل للضفّة وغزّة، تعجّ سجونه بالأسرى الفلسطينيين.
- احترام كرامة الإنسان مقدّس لا يعرفه السّجان الإسرائيلي.
- يتناول الأسير حصّته من الطعام من محاذة قدمي السّجان.
- هل حدث أنْ حاولت ذات مرّة أنْ تتناول غذاءك من أرض الزنزانة؟
- الإنسان يريد فقط احترام آدميته، وهذه ثقافة لا يعرفها السّجان الإسرائيلي.
- الأسرى بشموخهم لا يقبلون التعامل معهم كمجرمين.

 
النقد الذي يتطّلع إليه الأسير محمد سعيد اغبارية، هو ممارسة معرفية تتوغّل في تلافيف الظواهر الإنسانية للحركة الأسيرة، لتنكشف أمام العالم طبيعة السّجان الإسرائيلي، وآلية ممارسته الخادعة التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تزيف الوقائع وتصوير الأسير الفلسطيني، على أنّه مجرم لا يستحقّ الحياة٠ فالنقد الذي يقوم عليه اغبارية، هو حالة وعي متقدّم للتعريف بهذا المحتلّ وتعرية أكاذيبه، والتأكيد في ذات الوقت على أنّ الأسير الفلسطيني، يمتلك القدرة على التعبير عن ذاته، وأنّ الزنزانة لا يمكن أنْ تكون عائقا وحاجزا لهدر كرامة أسير الحرية.
نقد اغبارية لا يتقصّد إيجاد قطيعة مع الأسرى، بقدر ترتيب العلاقة وفق أسس حوارية تؤكِّد على حضارة الشعب الفلسطيني.
وقدرته على مواجهة هذا العدوّ المتغطرس الذي يسعى جاهدًا إلى بثّ الفرقة بين أسرى الحرية، وتكريس أساطيره ومسلماته ومغالطاته التاريخية بين الأسرى.
كما يسعى هذا المحتلّ البغيض إلى تعزيز سيطرة مفاهيم الإذعان والولاء والتبعية للمحتلّ الإسرائيلي كحقيقة، لا يمكن مقاومتها.

محمد سعيد اغبارية كشف من خلال حوارنا معه ثقافة التمايز التي يمارسها المحتل الإسرائيلي بين الفلسطيني وبينه الذي يتوهّم أنّه فوق البشر.
حوارنا مع اغبارية يكشف ويعرّي هذه "الثقافة السوداء".
حاوره سليم النجار - غصون غانم

محمد سعيد اغبارية أسير وكاتب فلسطيني اعتُقل هو وأخوه إبراهيم اغباريه في 25 فبراير 1992، وقد أمضوا من مدّة محكوميتهم داخل الأسر (32) عام وما زالوا يقبعون خلف القضبان.
ولد "محمد سعيد" حسن اغبارية في بلدة المشيرفة قضاء أم الفحم في الداخل المحتل عام 1948 في الحادي والثلاثين من كانون الثاني/ يناير عام 1968، وهو متزوِّج درس المرحلة الأساسية في مدرستي المشيرفة وكفر قرع، والمرحلة الثانوية في مدرسة الثانوية الشاملة فرع الإلكترونيكا في مدينة أم الفحم، ونال درجة الدبلوم في الهندسة والتربية من كلية بيت سيفرد (معهد للهندسة في الداخل المحتل عام 1948)، ونال وهو في سجون الاحتلال درجة البكالوريوس في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جامعة تلّ أبيب المفتوحة، ودرجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة ذاتها عام 2005. عمل مدرِّسا في المدرسة الثانوية الشاملة في أم الفحم لمدة عام. والأسيران اغبارية من الأسرى القدامى المعتقلين ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو، وهما من بين 30 أسيرا رفضت السلطات الإسرائيلية عام 2014 الإفراج عنهم، وتبقى منهم في الأسر 25 أسيراً، حُكم عليه بالسجن ثلاثة مؤبدات وستة عشر عاما، يكتب اغبارية المقالة السياسية والوطنية في المجلات والمواقع الإلكترونية، خصوصا تلك المهتمة بقضايا الأسرى والشأن الصهيوني مثل مجلة حريتنا، وصدر له عدد من الروايات والكتب منها روايتا: رحلة حكيم في سجن السبع (2007)، وقناديل لا تنطفئ (2012)، وله ديوان شعر بعنوان لمعات في عتم الزنازين (2008)، وله عدد من الكتب منها: ولدي يموت من وراء القضبان، وتأملات في كرامة الإنسان (2020)، ودليل القيادة في فنّ القادة، وعرب الداخل بين وهم الكنيست وسراب المساواة، والإضراب عن الماء، و(وعي الإنسان بكرامته) 2023.
هل حدث أنْ حاولتَ ذات مرّة أنْ تتناول غذاءك من فمك مباشرة من على الأرض أو حتّى من الصحن الموضوع على المائدة؟ كيف سيكون منظرك وأنت على هذه الصورة؟ وماذا سيكون موقف من يشاهدك من الناس؟ بالطبع لن تلقى منهم غير الضحك والسخرية، وأنت أصلا ستأنف وتستنكف حتّى عن المحاولة؛ لأنّ كرامتك لا تسمح لك بذلك سواء كنت مختلياً أو أمام الناس وإذا ما حدث أنْ حاولت إجبار أحد على تناول غذائه مباشرة بفمه من على الأرض فإنّه سيرفض وسيثور عليك ثورة لا تعرف الهوادة لأنّه يعتبرك أهنته وجرحت كرامته بمجرّد أنّك فكرت بطلب ذلك منه فما ظنك لو أجبرته حقاً؟ فإنّه لربّما يقاتلك قتالاً لا يبالي معه إنْ كان السجن أو الموت مصيره ومرّةً أخرى سوف أسوق مثالاً وقع فعلاً معنا في السجن، السجون الصهيونية منذ احتلال الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة عام 1967م، وهي تعجّ بالأسرى الفلسطينيين الذين قاوموا الاحتلال وتمّ اعتقالهم وأسرهم، مجموع الأسرى من جميع الفصائل الفلسطينية والذين اصطُلح على تسميتهم بالحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة واختصاراً الحركة الأسيرة يشكلون حالة نضالية منظمّة موحّدة، ولطالما نهضوا بأعمال نضالية جماعية ناجحة لانتزاع حقوقهم كأسرى سياسيين من السجّان، وبعد عدد من النجاحات للحركة الأسيرة ضاقت بهم مصلحة السجون ذرعاً فعمدت إلى نقل وعزل الكثيرين من كوادر وقيادات الفصائل الفلسطينية الموزّعة في السجون وجمعتهم في قسم منفرد ومعزول عن باقي الأسرى وعن العامل الخارجي وذلك في سجن هداريم وسط البلاد وفي محاولة منها لكسر الروح النضالية لدى هذه القيادات وتهشيم معنوياتهم؛ كانت قد وضعت كرامتهم هدفا لهجمتها عليهم إذ إن نظام السجون قائم على أن يتناول الأسرى وهم في غرفهم أطباق الطعام المخصّصة لهم عبر فتحة صغيرة تسع لمرور الأطباق تقع في وسط الباب أيّ لا يحتاج الأسير لأنْ ينحني كي يتناول طعامه منها بيد أنّه في هذا القسم كانت الفتحة موجودة في أسفل الباب ولكي يتناول الأسير حصته من الطعام كان عليه أنْ ينحني ويتناول أطباقه من محاذاة قدميه وقدمي السجّان أو عامل المطبخ بالطبع فإنّ الأسرى بشموخهم لا يسعهم تقبّل هذا الإجراء المهين الذي يطال أعماق لباب كرامتهم الشخصية والوطنية لحظة واحدة، فما كان منهم إلّا أنْ أعلنوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام ضدّ إدارة السجن حتّى تخضع لمطلبهم العادل ورد الاعتبار لكرامتهم، وفعلاً بعد أيام معدودة من الإضراب اضطرّت الإدارة أنْ تستجيب وتخضع لمطلبهم العادل، فأقرّت بفتح الباب عند تناول الطعام ثلاث مرات يومياً ثمّ إغلاقه، وهذا حدث في شهر مايو (أيار) من العام 2004م. هذه الحادثة اللافتة تبرهن عمق حساسية الشعور بالكرامة لدى الإنسان وجهوزيتها الدائمة واليقظة للثورة ما إنْ تتهدّد أو تتعرّض للإهانة؛ لقد انتفض الأسرى  وأضربوا عن الطعام لمجرّد إجبارهم على الانحناء لتناول حصصهم من أطباق الطعام من الفتحة في أسفل الباب، ولك أنْ تتخيّل ماذا ستكون ردّة فعلهم لو حاولوا إجبارهم على تناول غذائهم مباشرة بأفواههم من على الأرض!
إذْ في سبيل مصلحة الإنسان والمجتمع ينبغي حماية وصيانة لباب الكرامة لدى الإنسان منذ طفولته وإلى أن يوارى الثرى والوسيلة الأهم لحماية لباب الكرامة هو الاحترام، والإنسان يريد فقط أنْ تحترمه ويحب الذي يحترمه، عارضه، اختلف معه، انفصل عنه، فارقه، لكن إذا كان هذا على قاعدة الاحترام فإنّك ستنال محبّته وإذا شاعت المحبّة شاع السّلام وساد الوئام. فكم هو مهم احترام الشعور بالكرامة، احترام كرامة الإنسان حقّ أصيل مقدّس لكلّ إنسان ويجب احترامه، لكن ما يهمنا الآن هو التشديد على ممارسة احترام الجميع للجميع لأيّ كان ومهما كان سواء أكان غنياً أو فقيراً أو صغيراً أو كبيراً أو قوياً أو ضعيفاً أو ذكياً أو بسيطاً، لأنّ لكلّ أحد أيّاً كان احترامه لنفسه واعتداده بذاته وهذا هو لباب اللباب بالاحترام وحده تستخرج أفضل ما عند الإنسان بل ويعطيك أفضل ما عنده عن طيب خاطر ونفس سخيّة.
بينما الإنسان يحركه شعوره بالكرامة للتضامن مع نظيره في الخلق مع أخيه الإنسان دون أن ينتظر تحقيق مصلحة سوى استجابة لاندفاع أخلاقي داخلي أصيل، وأذكر كيف أنّنا كأسرى فلسطينيين سياسيين عمدنا في عام ٢٠٠٢م إلى بلورة قرار إضراب مفتوح عن الطعام ليوم واحد تضامناً مع أسرى حزب العمال الكردستناي التركي الذين أعلنوا إضرابا واحدا، وهو نقلهم إلى سجون قريبة من مكان سكناهم لدفع معاناة ومشّقة السفر عن أهاليهم حتّى زياراتهم، وأذكر أنّ بعضهم قضى نحبه جرّاء ذاك الإضراب، لاحظ كيف أنّنا أعربنا عن مشاعر التضامن والغضب كأسرى سياسيين مع معاناة ومحنة أسرى سياسيين آخرين لا نعرفهم شخصياً وإنّما لكونهم أسرى مثلنا في المعاناة والدوافع السياسية لذا من حقّي أكرِّر أنَّ الإنسان يتضامن ويتعاطف مع من هو مثله، أي مع الإنسان أيّاً كان هذا الإنسان؛ إنّه الشعور بالكرامة وإنّه لشعور جميل ينطوي عليه الإنسان وتحتاجه البشرية أيّما احتياج وهو أغلى ما يملكه الإنسان ممّا لا يستغني عنه ولا يرضى عنه بديلا ولا يملك أصلاً عنه تحويلا ولا يضاهي غلاوته شيئاً إذْ به صار إنساناً متميِّزاً به، يغضب عندما يُعتدى عليه أو عندما يُعتدى على غيره من منطلق التضامن الإنساني الذي يولِّد هذا الشعور.