الاستقلال الثاني لـ "الأمة الأردنية"
وليد حسني
كان المحررون الصحفيون خلفي وقبل سنوات كثيرة مضت يرفضون استخدامي جملة"الأمة الأردنية" في تقارير كنت اكتبها عادة عن مجلس الأمة بشقيه النواب والأعيان، كان عملي يتطلب مني ذلك، ولم أكن أبدا مبتدعا بقدر ما كنت أعبر عن إخلاصي للدستور الأردني الذي نص على ان الأردنيين أمة، وكنت مزهوا وانا أكتب ذلك.
في البداية لم يكن يعجبني إجراء المحرر، في المرة الأولى قلت في نفسي" ثمة خلاف في الرؤية بيننا"، وفي المرة الثانية قلت" نحن لا نفهم بعضنا، بالتاكيد إن ذلك المحرر يمزح، أو أنه يتجاهل النص الدستوري"، وفي المرة الثالثة ظننت أن في الأمر قصدية يُراد منها تغييب هذا المفهوم الدستوري، وفي المرة الرابعة ركنت أسئلتي جانبا، واستسلمت لقلم المحرر المقيت وتناسيت ــ ربما الى اليوم ــ أن الدستور استخدم وصف"الأمة" للأردنيين، واعتبرنا جزءا من الأمة العربية، ونحن الأمة مصدر السلطات نمارسها بموجب الدستور..الخ.
ما ينكص بي في التذكر هنا الى زمن فات وانقضى أنني انظر للأردنيين اليوم في كامل هيبتهم ومهابتهم وهم يتحلقون كجيش مندفع لحرب مفتوحة على عدوهم الداخلي اللدود المتمثل بعصابات الفساد الداخلي، ثمة مهابة هنا تفرض نفسها على الأمة الأردنية هذا الأوان تندفع من دواخلهم جميعا" سنخوض هذه الحرب وسننتصر".
ويشعر الاردنيون أنهم معنيون بالإنتصار في حربهم القديمة الجديدة، وهنا تتمظهر الحكومة كقائد برتبة جنرال يقود جيشه في ميدان معركة مفتوحة تماما، وثمة خطط، واستراتيجيات، وثمة احتمالات كثيرة بمخاطر متباينة، لكن ثمة هدف واحد فقط هو الوصول لجذور الفساد، واستعادة الوطن النقي من دولة الظل التي اختبأ الفساد في تفاصيلها الخبيئة لعقود مديدة.
هذه الحرب نجحت بالدفع بكامل الأمة الأردنية للإصطفاف حول هدفها بغض النظر عن الوسائل والطرائق التي سيعتمدها الجنرال في قيادة المعركة وإدارتها متسلحا بدعم شعبي غير مسبوق، وهو ما يتوجب على الجنرال الوعي على هذه الميزة جيدا، وليس عليه بالمطلق التراجع عما بدأه، وعليه ان يقول لكامل جيشه المهيب إن معركة تحرير الأردن من الفساد قد بدأت، وأننا مقبلون تماما على الاستقلال الأردني الثاني في تاريخنا العتيد ونحن نشارف بفخر على المئوية الأولى لدولتنا.
ليس المطلوب من الجنرال اليوم أي تراجع أو تخاذل، فلم تعد الأمة الأردنية تحتمل أي تخاذل ولا أظن أحدا من الشعب يقبل أي خذلان، وهذا ما يتوجب على الحكومة إدراكه، وعليها باعتبارها الجنرال الذي يقود حرب استقلالنا من الفساد أن تصارح الأمة بكامل تفاصيل هذا العدو اللدود، والجبهات التي ترغب بفتحها.
عشرات جبهات الفساد الآن بحاجة لفتحها ومواجهتها، وعشرات الأسماء التي يجب ان تطالها التحقيقات، وربما مئات المشاريع التي يجب النبش في تفاصيلها وفي فواتيرها لتقول لنا الحكومة كيف تمت سرقة الأمة والتنكيل بالوطن.
وعلى الجنرال الذي فتح هذه المعركة أن يشعر بالفخر والثقة بالانتصار فخلفه هذه المرة أمة بكاملها تتوق للإنعتاق من سلطة اللصوص والفاسدين، وتلك ميزة لم تتوفر لحكومة من قبل، واقسم لو طلبت الحكومة من الشعب بكامله النزول للشوارع دعما لتلك الحرب لما أظن أحدا من الأردنيين سيتخلف عن تلبية تلك الدعوة.
وصلت الأمة الأردنية إلى مرحلة لم تعد قادرة معها على الصمت على ما يرونه ويسمعونه عن الفساد في بلدهم، ولا أظن ان أمام الحكومة أية خيارات غير المواجهة المباشرة والمفتوحة مع كل ملفات الفساد، ولم يعد أمام الحكومة أيضا ترف المفاضلة بين الإستمرار والتراجع ولو خطوة واحدة الى الخلف.
لتذهب الحكومة في سنتها الأولى للتركيز على مواجهة الفساد وكشفه، والانتقال سريعا الى ملفات أخرى كبرى تم في سابقات الأيام طي ملفاتها وتخبئتها والتستر عليها، وبغير ذلك فإن الحكومة ستواجه ما لم تواجهه حكومة من قبل.
وعلى الحكومة أن تتواصل مع الأمة الأردنية يوميا لتقول لهم أين وصلت في حربها، ولا اظن أن هذا الأمر سيؤثر كثيرا على ملفات التحقيق وسيرورته، وليس أفضل من أن تكشف سريعا زيف مزاعم حكومات ولت كذبت على الأمة الأردنية زاعمة أنها طلبت من الإنتربول الدولي استرجاع سيد الفوسفات من منفاه الإختياري، ومن الأفضل لها ان تفعل ذلك سريعا لتمكين موقفها في حربها.
وإذا اكتفت الحكومة بملف السجائر فانها ستخسر كثيرا، هنا تبدو اللحظة السياسية أكثر من مناسبة امام الحكومة لتفعل ما يتوقعه الأردنيون منها، وهنا يبدو الدعم الشعبي هو الآخر مفتوحا على مصراعيه ولا حدود له، وهذا ما يجعل من الحرب على الفساد فرصة سهلة للإنتصار اولا على القوى الكبرى التي تحمي الفساد ورجالاته ورموزه، إذ ليس أمامها من خيارات لمواجهة هذا المد الشعبي الثائر.
آن الأوان لأن تذهب الأمة الأردنية بكامل هيبتها ومهابتها لتحرير وطنها من استعمار الفاسدين والمفسدين، حتى تعلن استقلالها الثاني المهيب، وعندها فقط سيولد أردن جديد ليس فيه غير ما حلم به الدستور الأردني والأمة الأردنية من أن الأمة مصدر السلطات، والاردنيون متساوون في الحقوق والواجبات، وتكفل الدولة كل ما يحقق للأردني حياة كريمة من عمل وتعليم وصحة وحرية رأي ....الخ.
ربما حين يتحقق هذا الحلم الجميل لن يجرؤ المحرر على شطب جملتي المفضلة"الأمة الأردنية "، لأنه لا يستطيع تجاهل أننا أصبحنا أمة، وغادرنا مكللين بهيبة النصر مزرعة"جورج اورويل"..//