بين الناخب والسياسي...
في الدولة الشاملة كما يقول نعوم تشاومسكي تتحكم العصا بالرأي العام ، وفي الدول الديموقراطية يتحكم الأعلام ، وهذا الإعلام تتحكم به الدائرة الضيقة التي تتحكم بالسياسة ، وهذه تتحكم فيها المصالح والاموال ومراكز القوى .
وهذه النخب تحكمها المصالح والسلطة والقوة ، وهي تسعى لتقاسم المكاسب كل حسب سلطته ، ويقع الشعب في معظم هذه الحالات ضحية هذه السياسة ، لم تبتعد السياسة الحديثة عن هذه الدائرة ، فما حدث في الشرق والغرب كان قائما على تضحيات الشعوب وتوظيفها لصالح فئات معينة ، وما زالت معضلة التوازن في إدراة الدول بين الساسة والشعوب قائمة .
منذا أيام سولون في القرن الخامس قبل الميلاد إلى اليوم ، لم نستطع الوصول إلى تلك التوليفة التي تحقق العدالة بين الطرفين ، وما زال البحث مستمرا للوصول إلى تلك الحالة من التوازن بين الساسة والعامة .
النخب الفاسدة تقصر عمر الدول وتعمل على زوالها ، ولذلك تسعى الإنظمة الحديثة للوصول إلى فرض نظم سيطرة ورقابة تنمع إنحراف الساسة عن الهدف الأسمى ومصالح الوطن العليا ، وهذا الإنحراف قد يكون بسبب عدم القدرة على إدراك المخاطر والسلبيات ونقص الخبرة ، وقد يكون بعوامل أخرى مختلفة ، ولكن الرقابة التي كانت تفرض على الساسة من أيام مجالس الشيوخ في الأمبراطوريات الرومانية إلى اليوم هدفها واحد هي تقليل هذه الظاهرة والحد منها ومن تغول الساسة على السلطة.
نعم تنحرف الدول عن مسارها وتتحكم بها الأهواء والعقول والرغبات ، وكثيرا ما دخلت الدول في صراعات لم تجر عليها إلا الوبال والدمار والخراب ، ولكن التدافع بين البشر هو السمة العامة ، فأنت لا تستطيع أن تركن إلى السياسة في إدارة الدولة دون وجود القوة العسكرية .
ووجود القوة العسكرية هو الطريق الذي يفتح شهية الإستعمار والإحتلال عند الساسة وعند القادة العسكريين للسيطرة على السلطة كما حدث مع القيصر ، وكثيرا ما كانت الحروب طريقا لتجنب الصراعات الداخلية بين النخب بنقل الصراغ إلى الخارج أو تحقيق أنتصارات على الأعداء ، أو للسعي للحظوة والبطولة عند العامة .
وما تسعى إليه العامة هو الإنتصارات العسكرية والثروات الإقتصادية ، وهذه وتلك لا ينتصر فيها الحكماء والخبراء والعقلاء على الأغلب ولكن القادة العسكريين والتجار . والعامة قد تحسن التقدير وقد لا تحسن التقدير ، والضريبة في النهاية سواء أحسن الساسة أو العامة أو أساؤوا تدفع من قبل الجميع .
ولذلك كان واجب على الجميع المشاركة في إتخاذ القرار وتحمل تبعياته ، وهنا نقف مع الأنظمة الحديثة التي تسعى إلى زيادة التمثيل الشعبي من خلال المجالس المختلفة ، ونقع مرة أخرى في دوائر مختلفة من العشائرية إلى الحزبية إلى المصالح الضيقة البعيدة عن تحقيق المنفعة العامة للوطن أو دفع الضرر العام عن الوطن ، وينتصر في هذه المعارك الإنتخابية من يحسن مخاطبة الشعوب والتلاعب بعواطفها وحملها على تحقيق أحلامه ولو على حساب أحلامها ، وهو يقنعها بأن ما حققه هو في النتيجة ما تريده هي .
وهنا أستحضر الدولة الحلم التي أنشأها رسول الله في المدينة ولم تستمر إلا لفترة محدودة ، وهي تلك الدولة التي كان الرجال والنساء فيها على قدر من العلم والتأهيل والعمل ، ومن يعمل هم أكثر ممن يتطلع إلى الحكم ، ولا يحكم إلا من إختاره النخبة من النخبة من هؤلاء ليمثلهم ويقوم بأمرهم ، فكان أميرهم منهم وكان كل واحد فيهم أمير وإن لم يكن سوى أقل واحد فيهم ، ولكن خلق هذا الإنسان وصناعة هذا النوع من البشر هي التي إستغرقت كل تلك السنوات .
وهؤلاء كانوا البذرة التي ساهمت في نشر الإسلام وإنتشاره وقيامه في تلك البيئة المعادية في كل شيء ، كانت هذه النوعية من البشر هي السبب فيما وصل إليه الإسلام اليوم ، نعم كان هناك إنحرافات عن المنهج ، ونعم كان هناك ظلم وتجاوز .
ولكن الدفع الإنساني والحضاري لهذه الفئة التي كانت تعمل لصالح البشرية بشكل عام وتسعى لرفعة الإنسان ونقله إلى مستويات جديدة من التحضر والمدنية ، وتستفيد من كل ما حولها وتصهره في بوتقة واحدة ليشكل دفعة أنسانية عز نظيرها ، مع إقراري بالتجاوزات التي حدثت ، ولكن الدفع الحضاري ساهم بأن يكون التجاوز محدود الأثر والطبيعة ، ولنأخذ مقارنة بين ما تقوم به دول التحالف اليوم بقيادة الولايات المتحدة في غزة ، وما قام به كل القادة العسكريين الذين تخرجوا من هذه الحضارة مع الأعداء على مرّ التاريخ لتدرك تماما معنى ما أقول .
ولذلك ربما علينا أن نعيد الإسلام إلى الإنسان ، أو بمعنى أدق نعيد الإنسانية إلى الإنسان ، وعندها لا فرق إن كان أميرا او جنديا ، مسؤولا أو فرد من العامة ، فكلهم يدرك معنى الإنسانية والأخلاق والأخر .
إبراهيم أبو حويله ...