غزة وحصان طروادة


سعيد الصالحي

في فلسطين تسقط أجساد الشهداء هامدة بلا حراك وأحيانا تتفتت أجسادهم شظايا ولكن تبقى أرواحهم صلبة ولامعة كالألماس، أرواح برسماوية تحمي سماء وأرض فلسطين، أما في الشتات فروح الفلسطيني تتناقص كل يوم ويبقى جسده سليما معافى إلا من أثر عملية بواسير أو استئصال لزائدة دودية، فشتان ما بين موت الروح التدريجي وهيامها في الشتات وبين سقوط الجسد وانبعاث وتجدد الروح.

في فلسطين يحاول المحتل الصهيوني اعتقال وقتل كل مظاهر الانسانية فهو لا يكتفي بقنص وحبس الاجساد فقد وصلت به اللا آدمية إلى محاولة إلقاء القبض على الفرح والحزن والبؤس واليأس وحتى سرقة آلام المخاض من الأمهات لم تنجو منهم، فباتت الفلسطينية تخرج الروح من روحها بالصمت والعض على النواجذ، فكل من يبتسم بالنسبة لهم مشروع مجرم وكل من يبكي أو يصرخ فقد تفتحت فيه الانسانية لذا فهو مجرم يستحق السجن بقرار إداري، والطفل اللاهي في الزقاق خلف فراشة مجرم صغير، وجدتي التي تداعب أوراق الخبيزة وعروقها مجرمة بدورها فكل هؤلاء لم ترهبهم بنادق المحتل ولم تنل ممارسته البهائمية من مشاعرهم الانسانية بل حملتهم جميعا نحو مرتبة من البشر لم يصل إليها حسب معرفتي في كتب التاريخ والبشرية إلا الفلسطيني، فيوم أمس صادر الصهيوني علب الشوكولاتة وباكيتات الناشد والسولفانة من بيوت الأسيرات المحررات ولكنه لم يتمكن من إلقاء القبض على دموع الملايين في العالم وهم يرقبون الأمهات والآباء، فرت الدموع من مقلنا أيضا فرحا بتحرير الاسرى وحزنا على الرصاصات التي أصابت أرواح كل من لا حول لهم ولا قوة.

تعلمت أن الكلمة تختزل عشرات الفقرات والخطب والشعارات، ولكن أحد لم يعلمني أن كلمة غزة  لم ولن تختزل فلسطين بل اصبحت كلمة غزة تشير إلى اللد والرملة ويافا وحيفا والناصرة، فغزة لا تعترف إلا في فلسطين التاريخية ونحن لم نعرف إلا غزة التي يحتاج الصهاينة إلى خدعة أكبر من حصان طروادة لاجتياح أنفاقها وما تبقى من حصونها، فلن تنفع المعتدي الصهيوني توسلاته السرية وغطرسته الاعلامية في تحقيق نصر وهمي، ففلسطين منذ الازل عاصمة الشهداء ومحطة مهمة في رحلة الخلود، فما زال لدينا الملايين من شهداء الاحتياط الذين ينتظرون دورهم لاكمال الركب ومتابعة المسيرة نحو رحلة التحرير.

سأجلس في اللد المحررة بعد فترة وجيزة شاكرا ممتنا لأرواح الشهداء من أطفالنا الذين لم يرضعوا الحليب من الرضاعات الصناعية وأثداء أمهاتهم ولم يتنزل عليه من فضاء جونو بل كان يتصاعد إلى مقامهم الرفيع من الأرض والتراب المعجون بدماء أسلافهم، فتراب فلسطين يبعث الأشجار وسنابل القمح والعكوب والهندباء وكذلك لديه مقدرة عجيبة على بعث الأرواح وإعادة تشكيلها بهيئات عصرية جديدة.

في فلسطين تبلى الاجساد وتموت العصافير وتخار قوى البغال أما الارواح فتتناسخ وتنتقل من جيل إلى جيل فالخضر شهيد اللد قبل آلاف السنين تمكنت روحه من الفرار بطريقة أسطورية من قوى الصهاينة البرية والجوية عندما قصفوا الكنيسة المعمدانية وها هي تسكن جسد طفل صغير من أطفال الخداج نجا بصعوبة عندما تدفق الوقود بمباركة امريكية من كهنة وحراس ثقافة القسوة، هذه الثقافة التي يرفع لوائها الغرب والذي صدع رؤوسنا وهو يردد كالببغاء بشعارات مثل الحرية والعدل وحقوق الإنسان، شعارات هذا ظاهرها تماما كحصان طروادة أما باطنها فبوسعنا أن نراه ونلمسه في حطام غزة.

سلام الأموات على أرواح الأحياء وسلام من يتنفسون على من لا يحتاجون الأنفاس والأنفس، ولا سلام ولا بركة على حصان طروادة.