الكاظمين الغيظ
إدراكَ كظمِ الغيظِ يأتي مع التأمل والأمل و أيضاً الألم. عندما تحبس الرغبة الجامحة للتعبير عن الغضب و تكظمِ غيظكَ فأنتَ تمارس ضبط النفس الذي حَثَّ عليه القرآن، و تتأمل أن يقودك هذا للتأملِّ بمقدرةٍ علي التحمل و قدرةٍ علي الأمل بالفرج من الكرب الذي أصابك بالألم الداخلي للنفس. الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و المُسَّبِحين و المستغفرينَ هم فئةٌ من الناس الذين أصبحوا أقليةً في عالمٍ يحترم المخطئ و يتجاوز عنه.
إن رحلةً بالسيارة عبر شوارع مدينتك تختبر ما لديك من صبرٍ و كظمٍ للغيظ مما تراهُ من استهتارٍ و تَسَيُّب. و مراجعتك لمكاتب حكومية تتبنى شعار الحكومة الإلكترونية قد تصدمك بعُطلِ النظامِ لساعاتٍ و أيامٍ لتمتحنَ هي كذلك قدرتك علي الصبر، وسطَ عشراتِ التعليقاتِ المتذاكية من المراجعين المتأففين و استسلام الموظفين لعبارة "النظام عطلان" و نفثاتِ سجائر المراجع والموظف تحت لافتات منع التدخين التي لا تُحترَم. و أن يضطر أحدنا للذهاب لمركزٍ أو لمستشفىً حكومي ليتفاجئَ بالمواعيد الطويلة و الازدحام و تذبذب مستوى الخدمات بل و في أحيانَ لا إنسانيةَ المعاملة. و قد تبحث عن دواءٍ اعتدتَ عليه فلا تجدَهُ لأنهُ مفقودٌ من الوكيل و كأنَّ الوكيل ينسى المسؤولية المجتمعية و لا يتذكر إلاَّ المرابحَ المادية. و تقولُ لنفسكِ إنَّ بعض الظن إثم و تكظم. و قد تكظم غيظك حتى ببيتِ الله أمام خطبةٍ متكررةٍ انفكَتْ كلماتها عن واقعنا و ظهورٍ غير لائقٍ لبعضِ المصلين و منهم الكثير. و قد تطول القائمة لتتحول حياتك بالتدريج من الأملِ بالسلاسةِ للتنغيصِ والاكتئاب. تكتشف أن كظمَ الغيظ ليس سهلاً و أنه قد يُحسبَ عليكَ غَفْلةً أو سذاجةً. و إن أردتَ الاعتراض علي المُسَبِّبِ فستجد أن التعبيرَ له عواقبه، حتى لو اتبعتَ الطرق القانونية و الأخلاقية.
الكاظمين الغيظ لهم مرتبةُ المستغفرين و المسبحين في القرآن الحكيم و كظم الغيظ عبادةٌ لا يقوى عليها إلا القليل، في العادةِ و المعهودِ. لكن التطور الذي نشهده، الذي يُسارعُ في حِصارنا بالوعودِ، مثلاً بإنجاز أعمالنا بسرعة إلكترونياً، و تسهيلِ انتقالنا من مكانٍ لمكانٍ بِيُسرٍ و سلاسة، و توفير الخدماتِ المختلفة والانفتاح علي العلوم والثقافات والآداب، هذا التطور يصطدمُ بالواقعِ المحيط بنا من نُظُمٍ معطلةٍ و حوادث طرقٍ مميتةٍ و وعظٍ مِثاليٍّ نسمعهُ عالمين بُعْدَهُ عن الحاصلِ المُعاش. نتمسكُ بالأملِ للأحسن و يصفعنا الواقع، ونكظمَ الغيظ و نحتسبهُ من العبادات المأجورة.
كظمتُ غيظي بمكتبٍ حكومي فِعليَّاً إنجازَ معاملةٍ فيه تستهلك ٢٠ دقيقةَ عملٍ مُخلص، فاستهلكتْ يومين و ١٠٠ كيلومتر، بين غيابِ الموظف و عطل النظام. و أكظمُ الغيظ كلما قُدْتُ لمكانٍ ولو قريب. لكن القائمة تطول و الشكوى كما يقولون مَذَلَّة فحسبنا اللهُ و نِعْمَ الوكيل.