خَللٌ طفيفٌ في السَّفرْجَلْ
شعر أحمد عارضة
هفاف الخوف
سليم النجار
اصطُحِب الفضاء الغزّي بالرصاص، فتسمّر الخوف أمام الموت، ماذا كان اسمه قبل أن يستولوا على غزة؟
كانت أصوات الرصاص تأتي من الجهة المقابلة زخّات متقطعة، ثم صارت تتواصل من سائر الجهات، وقدّر الإسرائيلي أنهم يحتفلون بإعلان الموت المجاني، لذا، قرر العودة للملجأ، ولأن ساقيه كانتا تنتظران قرار الرد من قِبل غزة، طارتا به، لم تحطّا إلّا في مدخل الملجأ، وكانت أصوات دوي قنابل النابل قد نأت وعادت تتقطع.
تَمَلْمَل الموت الفلسطيني في حضن الصمت الوثير، وفكرت حكاية الخوف أن القصاصة التي يكتب عليها الشهيد قد أساءته، فأخذت تربت على كتفيه وهي تروي عن شعر أحمد عارضة "خَللٌ طفيفٌ في السّفرْجل" ..
أحمد عارضة، الأسير في سجون الاحتلال والمحكوم بثلاثة مؤبدات، ومثل هفاف كلماته، أحمد العارضة المولود في نابلس، يخاطب أهله في غزة شعرًا في قصيدته:
"غدًا غدًا يموتُ الزَّهرُ جوعًا
أمس ماتَ الزّهْرُ في حُلْمِ الرجوع
لا الأمس يشفعُ للغَدِ الآتي خطيئة"
خيّم صمتٌ ثقيل حتى قطعته، كم أنا بحاجة لصبر أيوب في هذه اللحظة لمواصلة الكتابة عن شعر أحمد العارضة، هو معتقل وأنا في الشتات، الغزّي يُقتلْ ودمه أصبح " شو" إعلامي، تُرى ماذا سيقول في قصيدته الوَردْةُ البيَضاء
"وجُنودُ داودَ ابن إيشارَ ابْنَ عابِرْ
أورثوا أشتاتهُمْ
كُلّ المعابِرْ
بعدَما قتلوا بمقَلاع الخداع"
في تلك العشية الغَزّية، وهو يتلصص من فتحة الستار، كانت السماء تُدِلُّ بأعشابها التي ذهّبها القمر، ولما فرغ القمر من لعبه، ذكّر الموت بأن الكلمات غابت عنه تمامًا منذ الليلة التي تبادلا فيها اللعبة، موت مدفوع الثمن، وضحية تنظر سَلخها من جزّار كل يوم يحمل اسم مختلف عن اليوم الآخر، كما أوضح العارضة في قصيدته "مَنْ هُم؟!"
"عن صمتِ دَهْر
أخرجتْنِي
أيْن اليومَ مِنْ ماضٍ تَواري
في ضميرٍ غائب
أو
مَن نَكون؟"..
توجست شرًا من أن يكرر تاريخي نفسه، عندما أخذت السماء تغبر، ثم تتضبب، ثم تعتم وهي مغبرة ومضببة، هذا ليس بعجاج، ولا هو بضباب، هذا ليس بكسوف، وفي المساء، هذا ليس بمطر ولا بطين، مابك أيتها السماء؟، العارضة الذي رأى سماء وطنه في " لقاء بذكرى الرحيل"
"وراء الضلوع سَيمكثُ حُلْمٌ جديدٌ
سيحيا ويفنى
سيشربُ عند السماء النّبيذ
سيَشربُ عند الصباح قليلًا من البُن
كي لا ينام، ولا يتلاشى"..
احتاجت نفسي عصرًا رغبة عارمة في أن أكون وحيدًا، ولكن ليس في البيت، تسلّلت من العمارة، مللت من القنوات الفضائية التي تبشرنا بأن الجثث الفلسطينية طوابع للحياة، سئمت الكذب المفضوح متحاشيًا لحظة قهرٍ تفقدني عقلي، اشتقت لعراء الصحراء، وللعارضة رأي جاء على الشكل الآتي في قصيدته "إعفْاءات"..
"تعودُ لصمْتٍ لذيذٍ
يطولُ قصيرًا
وتسألُ
ما الضيرُ من طرْحِ نِصْف السّؤالْ؟
أقولُ اكْتِمالُ الجوابِ مُحالْ
تصيحُ: وكيف عرفت
أصيحُ : لأني متُ
وعُدتُ بطيئًا أمام السّؤالْ"
ثملًا بالفيلم عاد إلى الغرفة، واستلقى على السرير، وغامت عيناه بأطياف من الفليم الغزّي تملؤها هفاف الخوف، وتحدوها موسيقى قنابل النابل، وربما كان قد غفا عندما اقتحمت والدته الغرفة حاملة طبق العشاء، بقدر ما كانت والدته متوترة، بقدر ما كان هو مسترخيًا، ولم يطل صبرها، فرَمَتْ بالسؤال:
ما انتهيت من الفيلم العاهر؟
من تقصدين؟ سأل ذاهلًا
قنابل النابل حرام عليك، لا تظلمي القنابل، الكل متفق على أنها حبوب لتهدئة الأوضاع".
العارضة الشاعر، له لغة مختلفة عن التهدئة، وصفها على الشكل الآتي في نصه "خُذلان الغريبة"
"احتضنتني..ذاك من وهْم الأماني المُطلقة
أنت طفلي
أنت لي إرثًا نفسيًا في حياتي من عصور اللازَوَرد"
لماذا هنا إذًا وهو هناك؟ تساءلت، وكان قلمي النقّال بين الكلمات والوصف يغالب صمته بالوميض، والتلفزيون يعلن نهاية الفيلم وبداية فيلم جديد، والشاعر أحمد العارضة ينعى كل الأفلام ويبدأ بصباح الياسمين
"لمن ستقرأ في الصباح قصيدةً
وصفَتْ ملامحَها بغير تَحفّظٍ
إلّا قليلاً
أمعن الإيماءُ في إخفائهِ
عمدًا تكلَّفهُ الشحوبُ المرُّ
واختصرَ الحوار"
على عهدة الراوي، أن نصّي كان في طريقه إلى مقبرة سحاب في عمّان، من أجل ترميم قبر والدتي الثانية عواطف مقبول، بعد انطواء السنين على وفاتها، وكان الوقت ظهرًا، وإذ قلمي يدفعني للعودة للبيت لقراءة شِعْر أحمد العارضة "خْلَلٌ طفيفٌ في السَّفَرْجَلْ"، وأكتب ما كتبت منتظرًا فيلمًا جديدًا.