الثنائيات الضدية في مدارات امرأة/ مجموعة قصصية للكاتب محمد حسين

  قراءة بديعة النعيمي
 
لقد احتلت الثنائية حيزا بارزا في تفكير الإنسان منذ القدم وحتى يومنا هذا.وهي مهمة لتكوين ثقافة معينة لدينا. فالحياة فيها توازن وتقابل وهذا الاختلاف يقود إلى توجيه مسيرة الحياة نحو الأفضل. وقد جاءت الثنائية الضدية في قصص محمد حسين لتسلط الضوء على ثيمة أساسية وهي الصراعات الاجتماعية والنفسية.حيث كان للقضية الفلسطينية أثرا واضحا في قصص الكاتب. فالمخيم كبيئة له فرضت نمطا معيشيا دفعه للإحساس بالشئ ونقيضه في الآن نفسه. فكانت مدرات امرأة قد تهيأت لتكون مناخا خصبا لشيوع الثنائيات الضدية وهي وسيلة أسلوبية ناجحة لتصوير الواقع. ومن الثنائيات الضدية التي سجلت حضورا لافتا في المجموعة لا على سبيل الحصر, ثنائيتا الحلم/الواقع  الليل/النهار  الفرد/المجتمع  الحياة/الموت  الساكن/المتحرك. وقد تم الجمع بين قطبي الثنائية لتوظيفهما في فاعلية الإقحام ودوره في تشكيل الفجوة:مسافة التوتر التي كانت منبعا لشعرية مدارات امرأة.
 
وأفكار كتلك التي تبنتها المجموعة بحاجة إلى عنصر يدعمها في التأثير على القارئ وإقناعه وهنا يأتي دور الثنائيات الضدية.حيث أن من وسائل الإقناع الحجة العقلية القائمة على الاستدلال والمقارنة بين المتناقضين لتبيين المفارقة الشاسعة بينهما.فالنفس تسعى إلى الإتصاف بالإيجابي الحسن وتنفر من السلبي القبيح, والجدل والحجاج والرهان كلها تحتاج إلى التضاد وإلى الربط والمقارنة بين المتناقضين وهذا النوع من الربط يثير العواطف الأخلاقية والمعاني الفكرية في المتلقي وهذه الإثارة تؤدي إلى نتيجة هي التأثير والإقناع وتحقيق الغاية المرجوة وهذا ما سعى إليه محمد حسين في مجموعته. كما سعى محمد إلى تحقيق هدف نبيل وهو تعرية الحقائق وكشفها في مجتمع مستبد مجتمع الطرابيش وهو إشارة إلى الطبقة الفاسدة التي تتغول على قوت الطبقة المعدمة والمساس بأعراضها واستغلالها في أغراض غير شريفة كما جاء في قصة الوجه الآخر وغيرها من القصص.والشئ يعرف بضده فطبقة الطرابيش المتخمة يقابلها طبقة المعدمين الخاوية.
 
وتظهر آلية الحجاج التي تؤديها الثنائيات الضدية في (البوصلة) حيث يقول البطل( تمدحون الصدق وتكذبون,وتصفقون للحب وتكرهون,تتغنون بالعدل وتظلمون....افحصوا بوصلة قلوبكم كل يوم تعرفون).يتضح لنا بأن الكاتب هنا استعمل الثنائية الضدية للتدليل على رأيه وتدعيم فكرته.وهذا يعكس البعد الحجاجي لهذه الثنائيات والدور الذي تقوم عليه بغرض إقناع المتلقي
 
واتسمت المجموعة بالشعرية التي أتت من الثنائيات الضدية الطاغية فيها,والتضاد عنصر هام في تحقيق فاعلية وشعرية اي نص أدبي فالعلاقة بين المتناقضين علاقة مقلقة وهو أمر يؤثر في المتلقي فينفعل ويشحذ ذهنه من أجل الوصول إلى دلالته المتداخلة. وقد قيل قديما (بضدها تتميز الأشياء). ومن هنا فإن الثنائيات الضدية كان لها الدور الأنجح في تحسين المعنى وتقريبه للأذهان وإثارة المتلقي واستفزازه وهذا ما كان في مجموعة محمد حسين فتفجرت المعاني والجمال من بين ثناياها.  
وفي ( خطوتان) تتعب البطلة رهام من الحياة فتخاطب سعيد( لقد تعبت يا سعيد في كنف الثنائيات..موت بطيء..موت سريع..حياة بدون حياة..أمل بدون أمل) فيحاول سعيد إقناعها بأهمية الثنائيات في الحياة ( لكن لا تنسي أن الولادة من الخاصرة نازفة جدا ومؤلمة ,لكنها بداية حياة مثل اجتياز الخطوتين).
في (وثيقة سفر) نجد ياسر يشعر بالقوة بسبب انتماءه إلى وطنه فلسطين لكنه بنفس الوقت يعاني من الضعف بسبب حالة الاغتراب التي يعيشها في وطن ليس وطنه. ويظهر هذا على لسان ياسر( نظر خلفه مودعا, أطلق زفرة طويلة,لقد أعطيت هذه البلاد الكثير من الجهد والعرق والخبرة لكنها رفضتني).فرفض تلك البلاد له بعدما قدم لها الكثير جعله يشعر بالاغتراب وحسمْ أمره بالعودة إلى وطنه . وفي المطار تبرز ثنائية الحركة /السكون عندما يصر على البقاء على أرض المطار أو السماح له بالدخول إلى وطنه فيخبره شرطي المطار أن هناك قرارا بعدم دخول البلد لحاملي وثائق السفر لأن وطنه يرزح تحت الاحتلال. عندها يرفض ياسر المغادرة(سأموت هنا أو أذهب إلى وطني). فتمر الشهور وهو في حالة سكون تتمثل ببقاءه على أرض المطار وتظهر من خلال حالة السكون قوة الرفض بالترحيل واحتجاج على القرار.
وفي (لست تلك) نجد المكان مغتصبا للأماني في صدر بتول حيث تعقد مقارنة بين السماء التي تشعرها بالحرية حيث هوائها غير ممزوجة بالأتربة التي ترمز إلى التقييد والاختناق وضدها الأرض التي تغص بالجثث والجثث عادة ساكنة وترمز للموت, تقيد الحركة فتولد الصراع بين ثنائيات الأرض/السماء. لذلك نجد بتول تواجه طرفين متناقضين في ذاتها وفي المكان الذي أرغمت على العيش فيه.

وفي (انكسار المرايا) نجد البطلة ترفض الجريدة وتخاطب بائع الجرائد( لا أريدها, الغِ اشتراكي بها لم أعد أحتمل ترهات الواقع المستبد..سأمضي إلى حلمي وأعلن انتصاري على فوضى الحواس).وهنا نستطيع القول بأن البطلة تولد لديها شعور بالضيق فتصارعت الثنائيات الواقع/الحلم وتصادمت البطلة مع المجتمع وهذا الصدام سببه من وجهة نظرها المجتمع المستبد الذي لا يريد أن يفهمها.
وفي دائرة (الموت البطيء) ظهرت صورة الفرد في مواجهة العائلة والعادات فواقع البطل يتصارع فيه مع العادات التي يحكمه فيها من الزواج بابنة العم. حيث انتهى الحال بمعاناة وسام بسبب تلك القيود التي كبلت رغبته في الحصول على حبيبته سلوى فعاش اغترابا مع ابنة عمه لأنها كانت حائلا بينه وبين رغبته الحقيقية. وهذا ما ولد صراعا بين الثنائية الضدية الحب/الكره في نفس البطل دافعه به إلى عدم الإستقرار النفسي.فعلى لسان وسام عندما سأله منيب عن سبب عدم زواجه بسلوى( آه يا منيب, لقد أجبرني والدي على الزواج بابنة عمي وأنا وهي مختلفان في كل شئ).
وفي (الوجه الآخر) تعيش البطلة أماني زوجة العتال سعيد حالة صراع بين واقع ترفضه وهو واقع تنتشر به الطرابيش الفاسدة المسيطرة في واقع مستبد وتتحكم فيه بلقمة الفقير كما ذكرنا سابقا, وبين رغبة في العيش بهذا الواقع.فبعد انفصال أماني مجبرة عن زوجها وزواج عرفي مع الحاج فريد الذي لم يزر الديار المقدسة ثم استغلالها في علاقات محرمة لعقد صفقات تجارية تتحول الرغبة لديها إلى نقمة.فقبولها بالعلاقات المحرمة كان تنفيسا عن ضيق اجتماعي ويظهر هنا صراع الثنائيات من خلال ثنائية الفرد/المجتمع. فالمجتمع متمثلا بأصحاب الطرابيش الحمراء أجبر أماني على الوضع الذي زجت إليه دون رغبة منها وفقط من أجل  إبعاد شبح الجوع عن عائلتها.  
قصص محمد حسين جمعت بين الخيال والواقع ورحلة الإنسان مع الحياة بما فيها من تناقضات وما تضمنته من مشاعر إنسانية تضج بالحب والجمال عبر ابطال أظهروا تلك المشاعر وترجمتها بصدق ليتجلى الجمال في مواجهة أشكال القبح التي تصبغ الواقع.
كما اتخذت المجموعة من الإيحاء والرمز أسلوبا للبوح.
بقي القول بأن مدرات امرأة اتصفت بطابع الحزن لكن محمد حسين سمح لخيط من الفرح والسعادة انطبع بطابع القلق الوجودي والنفسي الذي سيطر على الأبطال بسبب واقعهم بالتسرب إلى دواخلهم.وكما قال سعيد لياسمين:
(لا يزال في الدرب أبواب مقفلة تخفي خلفها وهج الشمس مجبولة بالأمل)........