التشظي والانشطار في رواية الشظايا والفسيفساء للراحل مؤنس الرزاز

من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 1994 
   قراءة بديعة النعيمي 
كان لنكسة 1967 أثرا بالغا على الشخصية العربية حيث أصيبت بالاهتزاز وحل الشك محل اليقين وسقطت الكثير من القيم. وفيما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وحرب الخليج والعالم الذي أصبح أحادي القطبية تسيطر عليه الولايات المتحدة الرأسمالية. والراحل مؤنس الرزاز السياسي القومي الروائي الذي ولد في جو سياسي بحت, وتشرب السياسة حتى الثمالة,كان الأقرب لهذه الأحداث. فوالده منيف الرزاز الطبيب السياسي القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ذاق ويلات الاعتقالات والنفي وانتهت حياته وهو في الإقامة الجبرية التي فرضها عليه رفاق حزبه الذي كان يوما يمثل العائلة بالنسبة لمؤنس. وكان لهذا المزيج من النكسات سواء على مستوى العائلة أوتلك التي أصابت الواقع العربي والعالم برمته أثرا أنتج لدى مؤنس الروائي رؤية لا يقينية للعالم فلسفتها التمرد على التحديد والتصنيف وجماليات الوحدة والتماسك في الرواية التقليدية. أما النتيجة فكانت نوعا جديدا من الكتابة كفعل مقاوم يعيد النظر في كل شئ ويسعى إلى تأسيس وعي جمالي جديد, تشظى فيه السرد واضمحلت أدوار الشخصيات وتفتتت الأزمنة والأمكنة مع غياب الحبكة القائمة على مبدأ التسلسل والترابط والمنطقي حيث سادت فيه الأحلام والكوابيس واللامنطق والإنشطار والتشظي والشروخات وبالتالي سريان القبح طيلة صفحات العمل. 
ورواية الشظايا والفسيفساء حالة ممتدة من الانهيارات والخراب والتشظي الذي أصاب الواقع العربي في نهاية القرن العشرين مما لا يخفى من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية انعكست على عالم مؤنس الروائي كما ذكرنا سابقا. فانتقل هذا الخراب والانهيار والتشظي إلى شخوصه وأماكنه وأزمنته. 
ففي الكتاب الموسوم ب" الشظايا والشروخ " يفتتح مؤنس الرزاز روايته ص 5بملاحظة تقول: (يقال أن الأوراق "المشظاة" المبعثرة في هذا الكتاب من وضع عبد الكريم إبراهيم. أما الأوراق "الفسيفساء" المفتتة فهي من وضع سمير إبراهيم...والله أعلم!). ولأن شخوص مؤنس الرزاز يعانون حالة من الفصام وهو انشطار الشخصية حيث يؤدي هذا المرض إلى اضطرابات الحالة النفسية مع انقسام في فكر المريض وأفعاله ورغباته. فإن المتلقي لهذا العمل سيكتشف بأنه أمام شخصية مصابة بالفصام منذ البدايات, ويتأكد له الأمر في نهاية الرواية ص124 ( في المساء حين ينبطح سمير إبراهيم , أو سمير عبد الكريم أو عبد الكريم سمير , ما الفرق ؟) فشخصية سمير إبراهيم وعبد الكريم إبراهيم ما هي إلا واحدة انشطرت لاثنتين سمير وعبد الكريم. 
ويتجلى انشطار الذات في رواية الشظايا والفسيفساء من خلال سياق طموحها للوصول إلى حالة الاستقرار النفسي وملء الفراغ. ففي ص8 ما جاء على لسان عبد الكريم الذي ترك بيروت قادما إلى عمان باحثا عن الاستقرار ( اكتشفت أن لا مجال لقتل الفراغ والخواء والملل إلا بأسلوبين : إدمان العمل, أو الاستجارة بالخمر). 
والتنقل ما بين الماضي والحاضر تنشطر ذات السارد لتصبح الرواية لمحات سريعة من أزمنة متفاوتة وأمكنة متفاوتة أيضا ففي ص67 على لسان سمير( 1970 اجتزت الحدود إلى دمشق ثم إلى بيروت 1982 من بيروت إلى قبرص..من قبرص إلى عاصمة الرفاق). 
كما أن ما جاء في الرواية في بعض فقراتها من اختلاف التطور الحضاري كان له دور في انشطار الذات ويتضح هذا فيما جاء على لسان عبد الكريم ص12 ( القاهرة تستقبل سارة برنار في الأوبرا. وفي هذه المنطقة من العالم كانت بعض القبائل تغزو الخط الحديدي الحجازي. قلت: ثمة تباين في التطور الحضاري). 
كما أن اشتغال مؤنس بالتاريخ كان له أثر في توليد انشطار الذات ففي ص9 تحدث عن تاريخ عمان وقال بأنها بلا أصل لأنها كانت تجمع عائلات جميعها تدعي انتمائها إليها كمكان. 
ومن تجليات انشطار الذات ما تم خلال استحضار المشاهد والأماكن من ماضي السارد وذكرياته ومقارنتها بالحاضر الذي تسبب بأهم مشكلاته النفسية ففي ص58 على لسان عبد الكريم عن سمير ( بدأت ألاحظ أنني أنسى الوجوه وأنسى الحديث الذي بدأت به والأمكنة أيضا تتقمص ملامح غريبة عصية على ذاكرتي. لكنني أذكر صور ووقائع الماضي البعيد بصورة مذهلة . المشكلة تتعلق بالحاضر , أشلاء وشظايا فسفسائية). 
كما أن الشعور بالاغتراب والوحدة والرفض عند السارد سمير ما هي إلا نتاج مواقفه الرافضه لكل ذلك الخراب والانهيار الذي أصاب واقعه بل وامتد إلى الواقع العربي فالأحزاب لم تعد أهدافها نبيلة والانتهازيين سيطروا عليها, كما سيطرت الإقليمية الضيقة على التوجهات داخل الحزب. والتحول النضالي الحزبي لدى المناضلين والقوميين إلى الأعمال التجارية والإقتصادية بل ومحاولتهم طمس ماضيهم النضالي.

وسيطرة التلفزيون واللاقط والعاب الكمبيوتر على عقول الناس وخصوصا الشباب حتى أن مؤنس توقع أن الكتاب لن يهتم له أحد في القادم من الأيام وهو بالفعل ما حصل. كل هذا وأكثر أدى إلى انهيار وانشطارذاتي لشخوص العمل. 
وقد غصت الرواية بأعراض الفصام تمثلت بالتخيلات غير الطبيعية والهلوسات والتوهمات وميل الشخوص إلى العزلة وفقدانهم المتعة تجاه الأشياء وغيرها من الأعراض التي كانت تجلت للمتلقي من خلال الشخصية الرئيسية سمير ووجهه الآخر عبد الكريم. 
أما ثيمة التشظي فإنها تحكم قبضتها بقوة على الرواية والتشظي فقدان الروح أثناء تجارب الإنسان مثل التعرض للصدمات النفسية والحوادث والتعرض لخسارات كثيرة. والتشظي في رواية الشظايا والفسفساء كان أحد إفرازات التجربة السياسية التي تعرض لها شخوص روايته وتأثر من حولهم بها. فسمير يؤثر على أولاده وخصوصا ابنته رانية وكذلك أخته سميرة وشخصية سمير كما ذكرنا سابقا تحل محل شخصية عبد الكريم والعكس. فأبطال مؤنس مسكونون بالتشظي حالهم حال الأمكنة التي يتواجدون بها والأزمنة أيضا. ولعل أحد أسباب هذا التشظي القمع السلطوي ومن أمثلته ما جاء على فم الأستاذ الذي استجار بعمان بعد هروبه من مصر وكان نائب الرئيس جمال عبد الناصر ص14 ( فتح الأستاذ فمه ليتكلم ..إنه عاجز عن الكلام لأسباب أمنية). فالأستاذ لم يتكلم لأنه خاف على نفسه من قبضة السلطة. 
والقمع عند مؤنس تجاوز الواقع ليدخل الأحلام على شكل كوابيس. وتنوعت صور القمع حتى وصلت إلى أفراد الحزب الواحد. فعند زيارة عبد الكريم للدكتور عبد الرحمن اعترف له بأنه يتعاطى أقراص المنوم ليقتل الوقت وحدثه عن كوابيسه الغريبة ومنها اختطاف الرفاق له من حزبه القديم وتعليقه على صليب وتقطيع أصابعه بكل بهجة. 
كما وتطرق إلى خيانة الرفاق لبعضهم في نفس الحزب ففي ص67 عن أحد الرفاق( فرّ من أحراش جرش إلى عاصمة الرفاق. استقبلوه استقبال الأبطال ثم أعدموه. 
وعن رانية الصغيرة ابنة سمير ص30 التي اكتفت بمحاورة الكبار فقط بحركات الأصابع وتجنبت استخدام اللغة المقموعة( رانية لا تتواصل معي إلا عبر اللعب..ملامحها تشي أثناء اللعب الصامت بأنها مهتمة جدا ومستغرقة بلغة التواصل عبر الحركة والأصابع..لا عبر اللغة المحكية المقموعة). وهنا اضطر سمير أن يصطحبها معه إلى طبيب نفسي. وعلى لسان سمير ص67 ( أخذتها بالقوة وأخذت نفسي أي طبيب أعصاب. قلت له إننا مشوهان). والتشوه هو تشوه للذات التي تشظت وتفتتت بسبب القمع وعدم القدرة عن التعبير الحر. 
ومن عوارض التشظي التي سيطرت على شخوص مؤنس والتي تجلت في الرواية المعاناة من الإدمان على الخمر وهذا ما كان بالضبط يعاني منه سمير حتى أن زوجته انفصلت عنه بسبب هذه العادة وأولاده يحاولون منعه من هذه العادة. ومنها ما جاء على لسان سمير ص76 ( الصغيرة رانية تقف بالباب وتحدق إلي, تحملق بي,في عينيها فضول ورعب,وأنا أقف على حافة انهيار جسدي ونفسي ,وأحدق إلى أعماقي المشظاة المنكسرة..الخمر ملاذ). وفي ص77 على لسان سمير أيضا( أبول على عقبي .أحس أنني متناثر أصبو إلى الاستعاذة بمزيد من مشروب العرق). 
ومن عوارض التشظي التي وردت في الرواية أيضا حالة المعاناة من الخدر والقلق واللامبالاة التي كان يعاني منها سمير ففي ص8 عندما كان عبد الكريم يقنع سمير بالانضمام إلى حزبه ( قال وهو يتداعى على سريره بلا مبالاة :إن كلامي ليس سوى قصيدة شعر وإنشاء) وهذا الرد ينم عن يأس من واقع الأحزاب وأنها أصبحت مجرد شعارات جوفاء لا طائل منها. 
كما أن عبد الكريم الوجه الآخر لسمير يعاني من الضيق الروحي والوهن والفراغ والرغبة في الانتحار وهذا كله من عوارض التشظي. ففي  ص16 ما جاء على لسانه ( ثمة رياح باطنية لا تهب ولا تندفع. تتوارى في جنين الحاضر الخفي...هوة سحيقة من الفراغ. أصبح الوقت عدوي الأخطر..تدريجيا لا أدري بالتحديد. بدأت فكرة الانتحار تستحوذ على عقلي). 
وفي شظايا الفسيفساء ص67 يكشف الخراب والإنهيار في الوطن ( شروخ في فسيفساء الوطن الأم, الوطن الأم يجهض الأجنة, ويئد المواليد) فوطن مثل هذا الوطن مصاب بكل تلك الشروخ والخراب لا بد بأن ينعكس حاله على الحالة السيكولوجية لأبنائه.لذلك كان شخوص مؤنس في رواية الشظايا والفسيفساء انعكاسا لواقعهم المنهار. 
بقي أن نقول بان مؤنس الرزاز وجه من خلال الشظايا والفسيفساء نقدا لاذعا لأمور كثيرة منها الإنتخابات النيابية وتحكم العشيرة بها. 
كما أنه عرى السلطة وكشف الكثير مما خفي على العامة وأشار إلى الفساد المتغلغل في مؤسسات الدولة. وبعد كل هذا الخراب والانهيار والتشظي والخواء كان لا بد لمؤنس الرزاز بأن ينهي حياة بطله بالإنتحار ففي نهاية الرواية ص133 على لسان سمير إبراهيم أو عبد الكريم إبراهيم. لا فرق كما ذكر مؤنس ( أمام فندق الأردن في جبل عمان . وجدتني كالملتاث لا أدري من أين حصلت على البنزين.

بدأت أستحم به .سكبته على رأسي وهرعت مثل الومض نحو السفارة الأمريكية.رقصت في غمرة اللهب رقصة بدائية وحشية..فتاة بلا ملامح تحمل ملامح رانية بزغ وجهها من بين اللهب ,هتفت تحتج ضد أمريكا.زقالت السفارة الأميركية رحلت من هنا إلى عبدون منذ سنة..وكان أوان اللهب قد فات).