أهل القبور وثورة تحت التراب

بقلم: عيسى قراقع
انطلقت مسيرة الخلود من مخيم الأمعري إلى حاجز قلنديا في رام الله يوم 27-12-2022، مطالبة باسترداد جثمان الشهيد الأسير ناصر أبو حميد الذي قتل بمرض السرطان في سجون الاحتلال وبكافة جثامين الشهداء المأسورين فيما يسمى مقابر الأرقام العسكرية أو ثلاجات الموتى الباردة.
المسيرة حملت نعشاً رمزياً على الأكتاف تتقدمها والدة الشهيد أم ناصر أبو حميد التي فجعت بابنها بعد أكثر من 20 عاماً من اعتقاله مع أشقائه الأربعة الذين لا زالوا خلف القضبان، التابوت الفارغ الملفوف بالعلم الفلسطيني ينتظر أن يحتضن جسد الشهيد الغائب لتكتمل مراسيم التشييع والزفاف الوطني والشعبي ويصبح البعيد قريباً دافئاً في حضن والدته وفي استعادة الحياة المصادرة.
الأحياء يحتجزون في السجون والمعسكرات الإسرائيلية، وفي المعازل والتجمعات الضيقة، والشهداء يحتجزون في المقابر السرية، فالأرض الفلسطينية المحتلة صارت أكبر سجن في التاريخ الإنساني، وأكبر قبر جماعي لشعب جمدت أحلامه وطموحاته وأحزانه 50 درجة مئوية تحت الصفر وأكثر، ليتحول هذا الشعب إلى كتلة من الجليد كجسد الشهيد في ثلاجة الموتى، وتجميد الحياة وحق تقرير المصير والحقوق القومية والوطنية، وتشويه الجسد والأرض والفكرة والمبادئ والقناعات، والتحكم حتى بفضاءات الموت والحزن والتشييع وطقوس الجنازات والذاكرة الجماعية.
التحكم الاستعماري الصهيوني بأجساد الشهداء ورفض إعادة الجثامين إلى عائلاتهم هو جزء من منظومة القمع والعنف المتواصل على شعبنا الفلسطيني، فأجساد الشهداء ومعاقبتهم بعد الموت تعتبرهم حكومة الإحتلال أجساد خارجة عن السيطرة، ويجب ترويضها واستخدامها كوسيلة للتعبير عن الهيمنة، يجب محو ذكرياتهم وتجميد الحزن على الشهداءوشطب أسمائهم وأفكارهم كأنهم لم يولدوا، فوراء كل شهيد حياة حافلة، وتاريخ وحكاية وشجرة ممتدة في الزمان والمكان والعائلة.
تنتقم دولة الاحتلال من الموتى الفلسطينيين كأنها تخاف الموت وما بعد الموت، برغم قوتها العسكرية المدججة، وهناك تحالف بين المستوى الرسمي والتشريعي والقضائي والأمني والعسكري على هذه السياسة الممنهجة، إجماع على إخفاء جثامين الشهداء قسرياً، إخفاء العلاقة المتبادلة بين الأحياء والأموات وجذوة المقاومة، فالموتى الفلسطينيون يعودون ويستمرون في الحياة في هذه الأجيال الفلسطينية المتمردة والشجاعة.
تنتقم دولة الاحتلال من الشهداء الفلسطينيين، وتصاعدت هذه السياسة الفاشية في العشر سنوات الأخيرة، وقد بلغ عدد الشهداء المحتجزين ما يزيد عن 256 شهيداً من بينهم 11 أسيراً استشهدوا في السجون، إضافة إلى مئات المفقودين اللذين فقدت جثامينهم واختفت من سجلات الحاخامية العسكرية الصهيونية، فالاحتلال لا يسعى إلى تجريد الأحياء من حقوقهم وإنسانيتهم فقط، بل يسعى إلى ملاحقة الموتى وسلبهم حقهم القانوني والإنساني والديني والأخلاقي في الدفن الكريم وحرمان الأحباء من الحق في الحداد والتعبير عن المشاعر وزراعة الزهور وقراءة الأدعية المقدسة وسورة الفاتحة.
الاحتلال يخشى من الجسد الميت، فالشهداء يحاصرون دولة الاحتلال، الشهداء هم الإلهام والتعبئة والنزول إلى الساحات والشوارع، والهتافات والمظاهرة، ولهذا فرضت سلطات الاحتلال إجراءات وشروط مقيدة على دفنهم وتسليمهم، فعودتهم توحد الجميع، التضامن والغضب كأن حياة الشهداء تمتد إلى ما بعد الموت في الأحياء الباقين، فأهل القبور يثورون، يتشقق الترات، ثورة تحت التراب وفوق التراب، ويحاول الاحتلال أن يعزل الموتى عن مجتمعهم ويعسكر حيز الموت الفلسطيني برفض إعادة رفاتهم تارة، وبجرف المقابر تارةً أخرى، والاستيلاء عليها وإقامة معالم جديدة محلها متحفاً أو حديقة تلمودية أو مستوطنة.
احتجاز جثامين الشهداء جريمة إنسانية كبرى تنتهك كل المواثيق والأعراف الدولية والإنسانية، وهي سياسة تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتتعامل مع أجسادهم مجرد أشياء يمكن السيطرة عليها وإتلافها من الوجود، وقد باتت تخشى حتى صور الشهداء وإحياء ذكراهم، تعاقب العائلة وتلاحقها وتقمع أحزانها وعواطفها، إستمرار الألم زمناً طويلاً في انتظار عودة الأحباء وإطلاق سراحهم من النسيان.
لا تصدقوا أن المحتل الصهيوني يحتجز جثامين الشهداء بهدف المقايضة والمبادلة، حقوق الموتى في العرف الإنساني وفي قواعد الحرب والصراع لا يقبل الاشتراطات أو المساومة، ولا تصدقوا أن هذه السياسة لأسباب تتعلق بالأمن والردع، هنالك جرائم حرب ارتكبت بحق الشهداء، إنه يخشى الدلائل والبينات التي تشير إلى إعدامات وتصفيات خارج نطاق القضاء، القتل المتعمد لمجرد القتل، الاستهتار بحياة الإنسان الفلسطيني، وأكثر من كل هذا ما كشفته تقارير صحفية وقانونية عن المتاجرة بأعضاء الشهداء وانتزاع أعضاء من أجسادهم وإخضاعهم لتجارب طبية، ما هذه الدولة التي تتصرف كعصابة في منطقة الشرق الأوسط، وتدعي أن سلاحها طاهر وأنها دولة ديموقراطية؟
يخيل إلي أحياناً أن في كل بقعة من فلسطين جثة وجمجمة، تحت كل حجر وفي كل شجرة، ومع بداية كل سنة سيأتي الريح والضباب والمطر والطيور المهاجرة، ويخيل إلي أن أديم أرض فلسطين من هذه الأجساد الثائرة، وأن أنفاسها اللاهبة مصدرها هذه الأجساد المتناثرة، خط الموت يقع عندنا والحياة في عنق الهواء وفي الفلك .
لم تكتف حكومة الاحتلال بقمع الأحياء الفلسطينيين بالسلب والنهب والسجن والاستيطان، ولم تكتف بحجز جثامين الشهداء، وإنما تطالب بإعدام الأسرى المناضلين حسب قانون المتطرف الصهيوني بن غفير، وكأنه يجب أن يكون كل ما يحيط بالفلسطينيين هو موت، موت في الشوارع بالإعدامات الميدانية المتصاعدة، موت في السجون بالتعذيب والإهمال الطبي المتعمد، وموت بعد الموت باعتقال الشهداء ورفض الإفراج عن جثامينهم المحتجزة، فالفلسطيني الحي قنبلة موقوتة، والفلسطيني الميت قنبلة موقوتة، والمقابر والجنازات بؤر ساخنة، الفلسطيني يطارد دولة الاحتلال في الدنيا والآخرة.
كتب الشاعر الأسير محمد عبد السلام على جدران اكس 51 في سجن بئر السبع عام 1975:
إذا مت في القيد
لا تحسبي
بأني انتهيت بعز الشباب
لسوف أحرض أهل القبور
وأشعلها ثورة
في التراب