بوريل إذ يُناور !
بوريل إذ يُناور !
الأكاديمي مروان سوداح
لا يمكن للسيد جوزيف بوريل، مسؤول السياسات الخارجية في "الاتحاد الأوروبي"، أن يَمسح بسهولة تصريحاته المُثيرة للجدل عالمياً بشأن "أوروبا الحديقة المحاطة بالأدغال"، فقد تلفظ بها مِن على شاشات المُبَاصَرَة في كل برامج الأخبار للدول المختلفة على حد سواء، الصديقة وغير الصديقة لبلاده والعَالم الغربي، وجميعنا سمعها.
بوريل يقول، إن تصريحاته أُخرجت من سياقها وأسيء فهمها (!)، وفي الوقت ذاته أصدر بوريل بياناً يَعتذر فيه عن تصريحاته هذه، ويَدَّعى إنها أُخرجت من سياقها وأُسيء فهمها!، برغم أننا سمعناها بالصوت والصورة والحرف: أوروبا "حديقة"، وبقية العَالم "أدغال". ولم يتكفِ بوريل بهذا، إنمَّا أردف "مُحذِّراً من أن "تغزو (الأدغال) تلك "الحديقة"، ومُشيراً إلى أنها "أفضل مزيجٍ من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه (وهو يعني هنا حديقته الغربية ويُشيد بتفردها!)، لكن بقية العَالم ليس حديقة تماماً، بقية العالم.. أغلب بقية العَالم هو أدغال"(!). وأضاف: أن "الأدغال يمكن أن تغزو الحديقة، وعلى البستانيين أن يتولوا أمرها، لكنهم لن يحموا الحديقة ببناء الأسوار، حديقة صغيرة جميلة محاطة بأسوار عالية لمنع الأدغال لن تكون حَلاً (..)، على البستانيين أن يذهبوا للأدغال، على الأُوروبيين أن يكونوا أكثر انخراطاً مع بقية العَالم، وإلا فإن بقية العَالم سوف تغزو أوروبا"!!!
وفي بيانه الذي نُشر على موقع "الاتحاد الأوروبي"، إدَّعى بوريل إن استعماله لمصطلحي "الحديقة" و"الأدغال" ليس من اختراعه، إنَّمَا كان هذا المفهوم حاضراً في النقاشات الأكاديمية والسياسية منذ عقود(!) وفي رأي بوريل أن المفهوم يُشير إلى "قانون الغاب"، حيث يقوم النظام الدولي على إرادة الأقوى، بعيداً عن المبادئ المقبولة للجميع، نظراً إلى قوَّة الجهات الفاعلة فيه"..!
نفهم من قصة بوريل المُثيرة هذه التي تواجه الشجب الواسع في أقطار الدنيا، أنه يردد مصطلحات ويوظِّف مفردات عفا الزمن عليها، لكنه يعمل على استعادتها لصالح استمراريتها، والأخذ بها في التعاملات الدولية للغرب، وهذه إنَّمَا تسعى من جديد إلى تقسيم الشعوب والأُمم إلى درجات محددة في مسار الحضارة، عودة على قرون النهم الغربي الاستعماري للتوسع الأوسع في قارات المَعمورة، لاستعادة سيطرتها الشاملة على كامل الخامات والقوى العاملة الرخيصة، وليس للهيمنة على الجزء من الكل منها، تطلعاً من الاحتكارات الدولية لدعم الاقتصادات الأمريكية والغرب أوروبية، وتلافي الاحتمالية الواردة حالياً بتراجع الأزمة الاقتصادية الغربية بسبب الدعم الغربي اللانهائي لأوكرانيا بمواجهة روسيا، مالياً وتسليحاً، وهو ما أنهك تلكم الاقتصادات، ما سيؤدي، وقد أدَّى، إلى خروج شعوب تلك الدول إلى الشوارع استنكاراً لسياسات حكوماتهم، ودفاعاً عن لقمة عيشهم واستمراريتها، ورفضاً للحروب والنزاعات مع الآخر الإنساني.
تصريحات بوريل تؤكد ضرورة ضمان الوحدة السياسية الأُممية للشعوب المختلفة في كل القارات، دفاعاً عن مصالحها الحياتية، ولفظاً لكل مَن تسوِّل لها نفسه إعادة تقسيم المَعمورة إلى دول مختارة (الإمبريالية)، ودول "متخلفة"، وهي "بقية" البلدان التي ينظر إليها المتعالين في الغرب باشمئزاز، تأكيداً منهم على تواصل نهجهم التقسيمي البشع للبشرية، المُستَنِد إلى فلسفات استعلائية ما زالت تهيمن على عقول المنحرفين منهم فكراً وعقلاً.
...