الزراعة من محرِّكات النمو إلى ممكِّنات التنمية
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني/ أستاذ مشارك سياسات عامة/ كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
تتحدَّث التقارير الدولية، وآخرها ما أصدره البنك الدولي، عن أرقام النمو الاقتصادي للأردن، بمفهوم الرقم القائم على حسابات نمو الناتج المحلي. وقد ورد في آخر تقرير للبنك الدولية، كما تناولته وسائل الأخبار المختلفة، أنَّ التوقُّعات لنموِّ الاقتصاد الأردني إيجابية وبنسبة قد تتجاوز 2%، ما يعني العودة إلى معدلات النمو التي كان يحقِّقها الاقتصاد الوطني قبل الدخول في معترك جائحة كورونا، وما سبَّبته من زعزعة حقيقية لكافة النشاطات الاقتصادية في الأردن والعالم أجمع. بيد أنَّ النظر إلى التوقُّعات المشار إليها أعلاه يشير إلى أمرين اثنين لا مندوحة عن الحديث فيهما.
الأول، أنَّ ما يجعل النمو الحقيقي في الاقتصاد الأردني ذو جدوى هو تحقيق أرقام نموٍّ تتجاوز ضعفي تلك التوقعات، ذلك أنَّ أقلَّ نموٍّ مطلوب لاستيعاب القادمين الجدد إلى سوق العمل يجب أن يقع بين 5-7%. والأمر الآخر، هو أنَّ النموَّ الاقتصادي الذي يتحقَّق عبر قطاعات دون غيرها، هو نموٌّ رقميٌّ غير متوازن، من جهة، وغير تنموي، من جهة أخرى؛ أي إنه يحابي قطاعات على غيرها، وهنا المقصود قطاع الخدمات الذي يستحوذ على نحو ثلثي الدخل في الأردن، وبالتالي ثلثا توليد النمو في البلاد، كما أنه يتركّز في المدن الرئيسة، على حساب باقي المحافظات، ما يجعل التنمية محابية وملحوظة في محافظات على حساب أخرى.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هناك من سبيل أمام الاقتصاد الأردني لتحقيق اختراقات حقيقية في نسب النمو وفي مستويات التنمية المحلية المتوازنة، بحيث تتجاوز النسب المطلوبة لاستيعاب العمالة، وامتصاص البطالة القائمة؟ وإن كانت الإجابة (نعم)، فإنَّ السؤال الأهم هو: أين السبيل إلى ذلك؟ إنَّ الإجابة عن السؤالين تُذكرني بكتاب قرأته حديثاً، عنوانه «أغنى رجل في بابل» ومُلخصه أنَّ بابل لم تكن في أوج عصر حضارتها أكثر مدن العالم غنىً بالموارد المادية والطبيعية والبشرية، ولكنها كانت تدار بحصافة وحنكة ورشد لم يشهد العالم مثله في ذلك العصر. الشاهد هنا أنَّ الكثير من الدول في العالم تحتاج في إدارة شأنها الاقتصادي إلى ما امتلكته بابل في عصر عنفوانها؛ أي الإدارة السليمة الحصيفة الحكيمة المحنكة الرشيدة النزيهة الشفافة لتصبح الأكثر نمواً وتنمية وتطوراً وحداثة. بيد أنَّ العودة إلى السؤالين السابقين، بالنسبة للأردن، هي بالإجابة عن السؤال الأول؛ أي نعم يمكننا ذلك.
أمّا إجابة السؤال الثاني حول السبيل إلى ذلك فيكمن في تحليل محركات الاقتصاد الأردني، وتحديد ممكّنات استخدام واستغلال وتنشيط تلك الممكّنات لتحقيق تنمية حقيقية متوازنة وعادلة. وبالرغم من أنَّ تقسيمة هيكل الاقتصاد الأردني، من حيث توليد الدخل، تجعل قطاعاتِ الخدماتِ القطاعَ المُسيطر، بنسبة الثلثين، ويأتي من بعده قطاع الصناعة بنحو الربع، فإنَّ مفتاح تحريك الاقتصاد الأردني يعود أساساً إلى نظرية الروابط الاقتصادية الأمامية والخلفية التي تربط القطاعات الاقتصادية ببعضها بعضاً. وقد يستغرب البعض عند القول إنَّ مفتاح تحريك عجلة الاقتصاد الأردني يبدأ من قطاع الزراعة، الذي لا يكاد يشكِّل 5% في توليد الدخل والنمو في البلاد.
إلا أنَّ التحوُّلات العالمية اليوم، تشير صراحة إلى أهمية ذلك القطاع في الاعتماد المتبادل على الذات، وفي تحريك كافة نواحي الحياة الاقتصادية في العديد من دول العالم. فقد تعلَّم العالم أجمع من معركتي جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، أنَّ قطاع الزراعة هو عصب الحياة، وعصب الاستدامة، وعصب الاستقرار. ويشير التاريخ الاقتصادي للعالم أجمع أنَّ قطاع الزراعة قطاع مرتبط أمامياً بقطاع الصناعة؛ فهو مزوِّد أساسي للعديد من الصناعات الغذائية والطبية والصحية وحتى الكيماوية، وفي مجال الطاقة. كما أنه يستطيع أن يحرِّك قطاع الخدمات بأشكاله المختلفة؛ فهو محركٌ مهمٌّ لقطاع النقل البري والبحري والجوي، وقطاع التعبئة والتغليف، وقطاع المناولة اللوجستية، وقطاع المطاعم والسياحة، وقطاع الخدمات المالية، وغيرها من القطاعات. وقد حقَّقت دراسات البحث والتطوير في الزراعة اختراقات كبرى في مجال الإنتاج، والإنضاج، والإنتاجية للمتر المربع، والحاجة للمياه، بل والزراعة خارج المواسم، وغيرها من التطورات العالمية، والتي جعلت من نمو قطاع الزراعة مسألة حصافة إدارة، أكثر منها ممكِّنات مائية أو ممكِّنات تربة فحسب.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ التاريخ الاقتصادي للنمو والتنمية العالمية يقول إنَّ انطلاق الثورات الصناعية جاء معتمداً على مخرجات وإنتاجية قطاع الزراعة أولاً، وبالتالي فإنَّ الثورة الصناعية الرابعة، بكل ما تكتنزه من تكنولوجيا المعلومات، والبيانات الكبرى، وإنترنت الأشياء، تستطيع أن تعمل المعجزات في توفير الأمن الغذائي وتسخير اللوجستيات الرقمية لغايات هذا القطاع الحيوي، من حيث نشر المعرفة حول الإنتاجية والتنوُّع، واستخدامات الموارد، ودراسات السوق، ومصادر التمويل، وتوفير لوجستيات التواصل بين حلقات الإنتاج والتسويق والتوزيع، والأوضاع الجوية، والتقلبات الجغرافية، والفوائض والعجوزات، وسبل التبادل السلعي والخدمي حول العالم.
وعليه، فإنَّ أحد أهم المحركات الاقتصادية للأردن يمكن أن يبدأ من قطاع الزراعة، إن لم يكن هو السبيل الأكبر لتحريك كافة القطاعات الأخرى، حتى في مجال السياحة، والتعدين، واللوجستيات. بيد أنَّ تحريك ذلك القطاع يتم عبر تنمية أفقية وعمودية، عمودية تعني النوع والنوعية، والتقنيات الحديثة في مجال الأكوابونس، والتقنيات الزراعية الحديثة، الأجروتيك، وغيرها. ومحركات أفقية عبر التوسُّع في المشاريع الزراعية التشاركية والتعاونية، من خلال الشباب، ومن خلال المستثمرين الخارجين، والمحليين والربط بينهما، مع الاحتفاظ بالملكية العامة للدولة في الأراضي الأميرية والدخول في معادلات جديدة للشراكة أساسها التوظيف، واستفادة الاقتصاد الوطني، وليس التأجير والتكاليف المرهقة. أرضنا خصبة، ومياهنا جزيلة، برغم شحّها، ولكنها كذلك إذا أُحْسِنَ إدارتُها.
محرِّكات الاقتصاد الأردني تبدأ بالزراعة، وتنطلق منها إلى الصناعة، وتعتمد بعدها على قطاعات الخدمات جميعها. أمّا ممكِّنات النمو والتنمية فتكمن في محفّزات الاستثمار، وتشجيع الابتكار والإبداع، واستغلال طاقات الشباب من الجنسين، وتقديم الحوافز المكانية، والإدارية، وحوافز التمويل طويل الأمد، وتقديم التقنيات الحديثة، والمساهمة في التسويق، وفي النفاذ إلى الأسواق، وفي التحوُّل نحو اقتصاد معرفي عالمي في مجالات الزراعة والروابط القائمة عليه، وفي تشيجع الابتكار والإبداع، وفي تقديم الدعم الفني والمعرفي والمالي للمشاريع المتميزة.
ولعلَّ التوجُّه الحقيقي في تنمية قطاع الزراعة يكمن في الشراكة الحقيقية مع ثلاث جهات أساسية؛ الأولى تتمثَّل في الشركاء الاستراتيجيين من أصحاب المعرفة والخبرة، وخاصة في مجالات البحث التطوير الزراعي، وهؤلاء يمكن الشراكة معهم عبر تفويض مساحات كبرى من الأراضي، وفق روزنامة زراعية واضحة، تستفيد الدولة منها في توفير متطلبات الأمن الغذائي من جهة، وفي جزء، ولو يسير، من عوائد البيع المحلي أو التصدير للخارج. أمّا الجهة الثانية فهي مجتمع الشباب من الجنسين، الذين ينقسمون إلى رياديين من خريجي قطاع الزراعة، ورياديين ممَّن لديهم معرفة وأفكار متخصصة تستحق الاحتضان في قطاع الزراعة أو في الروابط الصناعية أو اللوجستية المرتبطة به، أو شباب يرغب في دخول المعترك الزراعي بهدف امتلاك مشروع أو تحقيق طموحات، لكنهم بحاجة إلى التأهيل والتدريب وبناء القدرات.
والفئات الثلاث السابقة من الشباب يمكن تفويضهم أراضي مجانية مؤقتاً، بمساحات مناسبة، ويتم متابعتهم، أو احتضانهم وتزويدهم بالممكِّنات المعرفية، أو الفنية، أو حتى اللوجستية، أو المالية، ضمن فترة زمنية محددة، فإمّا أن تنجح أفكارهم ومشاريعهم، فيتم تفويض الأرض لهم بشكل رسمي، عبر عقود استئجار طويلة الأجل، قد تصل إلى 30 أو 50 عاماً، مع الحصول على عوائد رمزية ترتفع تدريجياً، وتوقيع اتفاقيات روزنامات زراعية محددة معهم. أو تفويض ذات المساحات لغيرهم لخوض التجربة. أمّا المجموعة الثالثة والأخيرة، فهم الراغبون في التمويل طويل الأمد للقطاع الزراعي، وضمن عوائد متفق عليها، ومساحات محددة، شريطة أن يرتبط من هو ضمن هذه المجموعة بأحد المجموعتين السابقتين، وأن يتم الترتيب على أساس الشراكة المالية، دون التدخل في الروزنامات، أو الخطط الرزاعية، الإنتاجية أو التسويقية أو النوعية.
ويمكن هنا للصناديق السيادية أن تستفيد من ذلك، وكذلك الصناديق العامة، وصناديق التقاعد، وصناديق النقابات، وكبار المستثمرين فيما يسمّى رأس المال المغامر، شريطة أن يقوم التمويل على فترات زمنية ممتدة، وعوائد ذات فترات سماح مناسبة، ونسبة فوائد معقولة، مع ضمان المخاطر لهؤلاء، والسماح بالتخارج للغير، ضمن شروط، ما يشجّع هذه الصناديق وهؤلاء الممولين على الدخول في تلك المغامرات الاستثمارية. ويبقى القول إنَّ من أهم ممكِّنات نجاح هذا المُحرِّك الاقتصادي النوعي هو فتح مجال التعاون إقليمياً مع دول الجوار أساساً، سوريا، والعراق، ومصر، والسعودية، وفلسطين، والتحوُّل نحو سياسات الاعتمادية المتبادلة في الزراعة وتبادل المنافع وفق تنافسية منطقة، وميزة نسبية مدروسة بين الجميع.