اردوغان والطريق الصعب.. هل ينتصر على صبيان مدرسة شيكاغو؟

د. تيسير رضوان الصمادي



لو سألت مجموعة من الإقتصاديين عن السياسات والإجراءات المناسبة لكبح جماح التضخم في بلد ما لوجدت أن رفع أسعار الفائدة سيكون قاسما مشتركا في معظم، إن لم يكن جميع، الإجابات. وهذا أمر طبيعي لأنه ينسجم مع أدبيات المدرسة التقليدية الإقتصادية التي تهيمن على الساحة العالمية منذ توقيع إتفاقية بريتون وودز في عام 1944 والتي كان هدفها المعلن إرساء أسس لنظام مالي عالمي مستقر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد ازدادت سطوة هذه المدرسة وأصبحت أسنانها أكثر فتكا منذ سبعينات القرن الماضي بعد ظهور ما يسمى بالرأسمالية المتشددة القائمة على عقيدة مدرسة شيكاغو التي وضع قواعدها ميلتون فريدمان. طبعا هناك دول قليلة خرجت عن برامج الإصلاح الإقتصادي الموصوفة تبعا لرؤية هذه المدرسة، وعادة ما يتم الإستشهاد بالتجربة الماليزية بقيادة مهاتير محمد قبل عقود كمثال بارز في هذا الإطار!
أما حديثا فقد برز مثال جديد استحوذ على اهتمام دولي واسع، وحظي بالقليل من التأييد والكثير من الهجوم والنقد؛ الموضوعي أحيانا والموجه في الكثير من الأحايين! ففي ظل تضخم فاقت نسبته 20% في العام الماضي انتهج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته سياسة في الإتجاه المعاكس تماما؛ فبدلا من رفع أسعار الفائدة قام البنك المركزي التركي بخفض أسعار الفائدة خمس مرات متتالية خلال الثلث الأخير من العام المذكور، أي بما مقداره 500 نقطة أساس لتصل إلى 14%! طبعا هذا التوجه جاء في إطار ما أطلق عليه الرئيس التركي  "حرب الإستقلال الإقتصادي”! حيث يسعى أردوغان لتحقيق إستقلال مالي لتركيا، بعيدا عن السياسات الإقتصادية التقليدية التي تحكم سلوكيات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء! وفي تأكيده على عدم قناعته بمبادئ مدرسة شيكاغو أعلن أردوغان أن الطريق الامثل لمواجهة التضخم هو تخفيض الفائدة وليس رفعها!
بطبيعة الحال مثل هذا التوجه المعاكس للتوقعات شكّل صدمة في الأسواق وكانت له كلفة مباشرة، فقد تدهور سعر الصرف وتراجعت الليرة التركية مقابل الدولار بحوالي 55% في عام 2021، وكان معظم الانخفاض في الربع الاخير من العام عندما سجل سعر الصرف مستوى قياسيا وصل الى قرابة 17 ليرة/دولار، قبل ان تعود العملة الوطنية لتسجل تحسنا مدفوعا بعوامل عدة، لعل من أبرزها: قيام المركزي التركي بضخ مبالغ ضخمة من العملات الصعبة في السوق لمواجهة حالة عدم التيقن والقلق التي سيطرت على المتعاملين، وتطبيق إجراءات للحد من المضاربة في سوق العملات، وخاصة من جهات سياسية وجهت لها الحكومة أصابع الإتهام دون أن تسميها؛ رغم إشارة مصادر غير رسمية إلى دول إقليمية من بينها إسرائيل ودولتين عربيتين على الأقل! أما العوامل الأخرى فقد شملت تخفيض الأعباء الضريبية على المنتجين، وإقرار آلية لحماية الودائع بالليرة يتم من خلالها تعويض المودعين عن أي انكماش في قيمة الودائع، سببه تراجع سعر الصرف، يفوق الفائدة التي تدفعها البنوك على تلك الودائع. إلى جانب ذلك فقد استخدم الرئيس أردوغان قدراته الخطابية لرفع الحس الوطني لدى الاتراك، حيث دعاهم لبيع مدخراتهم من الدولار والذهب، وهو ما يعني بطبيعة الحال زيادة الطلب على الليرة مقابل زيادة عرض العملات الاخرى مما أسهم في تحسين سعر صرف الليرة، كما يحدث مع أي سلعة أخرى يزيد الطلب عليها أو يزيد عرضها! ولتقليص الضغوط على الفئات الهشة فقد اتخذت الحكومة قرارا برفع الحد الأدنى للأجور في القطاع العام بنسبة 50% اعتبارا من مطلع العام الحالي!
ورغم ذلك فإن فإن تزايد الضغوط المعيشية الناجمة عن تراجع القوة الشرائية للدخل لا تزال تسبب امتعاضا لدى الشرائح السكانية المتضررة، ناهيك عن تأثر قرارات المستثمرين في ظل عدم استقرار سعر الصرف وعدم معرفة الخطوة التالية، رغم إعلان البنك المركزي في شهر كانون أول الماضي بأنه سيتم وقف سياسة خفض سعر الفائدة لمدة ثلاثة شهور لتقييم النتائج واتخاذ السبل الكفيلة بضمان الاستقرار المالي والنقدي. وهو ما حدث فعلا إذ أعلن البنك المركزي في العشرين من هذا الشهر، أي كانون الثاني، عن إبقاء أسعار الفائدة على حالها.
وكما هو متوقع لم تتوانى المعارضة التركية عن استغلال هذه الظروف حيث هاجمت سياسات الحزب الحاكم وأخذت تنادي بضرورة إجراء انتخابات مبكرة، ووصل الامر بها إلى اتهام الرئيس أردوغان بالخيانة بسبب سوء الإدارة الاقتصادية! وساندتها في ذلك التحليلات الغربية التي وصفت سياسات البنك المركزي التركي ب "المتهورة” و "غير الارثوذكسية، أي غير التقليدية” و "الإسلامية” مبينة أنها تخالف الأساسيات الاقتصادية؛ في إشارة إلى نظرية المدرسة التقليدية في الإقتصاد! وأخذت تتنبأ بكارثة اقتصادية ستحل بالإقتصاد التركي بسبب تدفق الرساميل إلى الخارج وعزوف المستثمرين عن السوق التركي.
ورغم كثرة الضغوط وتعدد مصادرها فقد صرح الرئيس اردوغان أن حكومته لن تعود عن هذه السياسة، مؤكدا أن بلاده "لن تعيش مجددا في مصيدة أسعار الصرف والفائدة ومعدلات التضخم” وأن الوقت قد حان لوقف السياسات قصيرة المدى لاستقطاب "الأموال الساخنة” والانتقال الى سياسات طويلة المدى، من محاورها أسعار الفائدة المتدنية وسعر الصرف "التنافسي” وتعظيم الإنتاجية، والعمل على جذب رؤوس الأموال وحفز المستثمرين المحليين والأجانب وخصوصا أولئك الراغبين بالاستثمار المنتج طويل الأجل، الأمر الذي سيسهم في توسيع القاعدة الإنتاجية وتعزيز تنافسية الصادرات، وبالتالي زيادتها، ودفع عجلة النمو الإقتصادي، الأمر الذي سيثمر في خلق المزيد من فرص العمل وتقليص معدلات الفقر والبطالة.
وفي حقيقة الأمر فإن الطريق الذي قرر الرئيس أردوغان أن يسلكه هو طريق صعب وبالغ الخطورة لأسباب مختلفة من أهمها: التوقيت، فرغم تحقيقها نموا بلغت نسبته 7.4% خلال الربع الثالث من العام الماضي لا يمكن القول بأن تركيا تعافت من آثار جائحة كورونا ومن موجة الجفاف الأخيرة انعكست بوضوح على كميات وأسعار المنتجات الزراعية وعلى الميزان التجاري أيضا! يضاف إلى ذلك "الأثر الآني” الذي قد يتركه هروب رأس المال المضارب أو الساخن الذي يسعى عادة لتعظيم العوائد من خلال اسعار الفائدة العالية، مع الإشارة إلى إمكانية استخدام مثل تلك الرساميل كأدات ضغط إقتصادية وسياسية، كما حدث في تجربة ما كان يسمى ب "النمور الآسيوية”!
أما الخطر الأكبر والأهم، والذي لا بد أن القيادة التركية تدركه وتتحسب له، فهو يأتي من مصدر آخر عرف بتخطيه "كل شيء” في سبيل تحقيق مآربه. والمقصود هنا منظومة مدرسة شيكاغو التي تسيطر على المؤسسات المالية الدولية ولا تتردد في استغلال أو خلق ما تسميه بالصدمات، بما في ذلك الإنقلابات والحروب الأهلية واحتلال الدول، لتنفيذ استراتيجياتها وتطبيق نموذجها الإقتصادي وتمكين الشركات الكبرى من السيطرة على خيرات وموارد ومؤسسات الدول المستهدفة بأبخس الأثمان! وضمن هذا الإطار فقد جاءت خطوة جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك "توسياد” التي انتقدت بشدة توجه البك المركزي، حيث ينظر البعض إلى هذه الجمعية على أنها من المؤسسات التي تتبع المنظومة المذكورة!
فما يحاول أردوغان فعله يشبه إلى حد كبير ما يسمى في الأدبيات الإقتصادية ب "الحركة التنموية” التي سادت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في العديد من دول أمريكا اللاتينية مثل الأرغواي والأرجنتين وتشيلي والأرغواي، إضافة إلى تنفيذها في دول أخرى مثل إيران في عهد محمد مصدق وإندونيسيا بقيادة سوكارنو. فعلى الرغم من تحقيقها نجاحات إقتصادية ملموسة جعل منها مثالا يحتذى من دول العالم الثالث، فقد كانت منظومة شيكاغو لها بالمرصاد؛ إذ تم الإجهاض عليها بانقلابات مدعومة من الخارج، أدت إلى تولي العسكر مقاليد السلطة وتسليم الإدارة الاقتصادية لصبيان شياغكو، وهم مجموعة من الإقتصاديين الذين تم تعليمهم وتأهيلهم في جامعة شيكاغو وأصبحوا سفراء ومبشرين لهذه المدرسة في دولهم. وفوق توليهم مفاصل الإدارة الإقتصادية، بعد تلك الإنقلابات، فقد قام هؤلاء باستقدام أساتذتهم كخبراء ومستشارين، حتى أنّ فريدمان نفسه لم يتردد عن العمل كمستشار اقتصادي للدكتاتور بينوشيه! أما في أندونيسيا فبعد الانقلاب الذي قادة الجنرال سوهارتو على الرئيس سوكارنو في منتصف الستينات، فقد أوكلت مهمة إدارة الاقتصاد الى مجموعة أخرى تتلمذت على نفس مبادئ مدرسة شيكاغو ولكن أطلق عليها لقب "مافيا بيركلي”؛ نسبة الى الجامعة التي درسوا فيها في كاليفورنيا. وغني عن القول أن هذه المنظومة قد تمددت بشكل كبير بعد انهيار الإتحاد السوفياتي واستطاعت السيطرة على معظم الدول التي نشأت في أعقاب ذلك، وبعدها عملت على تدمير العراق واحتلاله والسيطرة على نفطه وخيراته الأخرى.
ومن الواضح لكل متابع أن خطوة الرئيس أردوغان الجريئة "المعادية” لمنظومة مدرسة شيكاغو تأتي في وقت تشير فيه التطورات إلى أن أنياب هذه المنظومة، وبعد تحقيقها  مئات المليارات، إن لم يكن الترليونات، من وراء إحتلال العراق وتدمير أفغانستان وقبلها نهب دول الإتحاد السوفياتي السابق وسيطرتها شبه المطلقة على النمور الآسيوية بعد ترويضها، قد فتحت شهيتها على موارد ومقدرات دول أخرى كأثيوبيا والسودان وسوريا ولبنان واليمن وغيرها من الدول التي تم خلق أو إصطناع الأزمات فيها تمهيدا للإنقضاض عليها تحت ذرائع مختلفة! فهل ستسمح هذه المنظومة التي باتت تسيطر على مفاصل الإقتصاد العالمي وأصبحت قادرة على تسخير الجيوش لخدمة مصالحها، هل ستسمح لهذه "الحرب الأردوغانية” بالخروج منتصرة، علما بأن الرئيس التركي نفسه كان مستهدفا بإنقلاب عسكري قبل أقل من ستة أعوام؟! الإعتقاد هو أنها ستفعل كل شيء لإجهاض هذه المسيرة في مهدها، وتحت أي ذريعة، وهذا ما ستبديه الأيام!
* خبير إقتصادي ووزير سابق للتخطيط والتعاون الدولي في الأردن