ربيع الاستبداد

د. منذر الحوارات

حينما غصت شوارع بعض العواصم العربية بالمتظاهرين مطالبةً بالحرية والكرامة بعد تعايش طال أمده مع الاستبداد في حينها تدحرجت الانظمة القوية واحداً تلو الآخر، وللوهلة الاولى بدت الامور اسهل مما توقع الكثيرون فها هو بن علي بكل جبروته ينسحب من المشهد بمنتهى البساطة وتلاه حسني مبارك الذي أعلن تنحيه عن السلطة وخضوعه بعد ذلك للمحاكمة وفي اليمن حدثت تسويات كادت تصبح حقيقة لولا، في ليبيا انتهى حكم معمر القذافي لكن الأمور توقفت واستعصت في سوريا فهناك كان للنظام رأي آخر، لكن مع ذلك كانت قناعة الكثيرين بأن زمن الاستبداد قد ولى الى غير رجعة وان عصراً جديداً يدق ابواب المنطقة يحمل معه دولة الحرية والعدالة والديمقراطية.

لكن بعد احدى عشر عاماً ثبت لكل المتفائلون أن تلك اللحظة من تراجع النظام العربي الرسمي والتي بدى فيها كأنه استسلم لمطالب شعوبه لم تكن إلا خديعةً كبرى حيث مارس في حينها شكلاً من التُقية لخداع الجماهير الهادرة وبدأ سراً يُعد الخطة لهجوم معاكس ينقض فيه على اي مكتسب حققته تلك الجموع في الشوارع، فماذا فعلت تلك الطبقات العميقة في تلك الدول كي تعيد الامور الى ناصيتها أكثر مما كانت ؟ في واقع الأمر هي لم تمارس ضغطًا مباشراً في بداية الأمر على الثوار الحاصلين على السلطة بل تركتهم يتصرفون كما يحلوا لهم (على قول دعهم يفرغون)، وفي الاثناء كانت تنقض على الدولة بمؤسساتها فقامت بعملية تخريب ممنهج لمؤسساتها وأضعفتها حتى أصبحت لا تقوى على ممارسة سلطاتها ومنها حماية المجتمع وأمنه فدب التفكك في كل القطاعات وبمختلف النواحي فعم الفقر وانتشرت الفوضى في كل مكان حتى وصلت المجتمعات العربية الى درجة السأم من الوضع الحالي فأصبحت العودة إلى الماضي بكل جبروته حُلماً يُرتجى فأضحت الدولة القادرة المهيمنة مطلب للجميع ونادى بها أنصار الحرية السابقون قبل أنصار النظم البائدة فمن تظاهروا بالأمس ضد الانظمة باتوا يتظاهرون لعودة صيغة تشبهها او قد تكون أسوأ منها .

هنا انبرى حراس المعبد من مهاجعهم ففترة ركودهم لم تطل كثيراً فالجماهير الهادرة لم تمتلك الوعي ولا الخبرة الكافية لإدراك كيفية إدارة الدولة والتعامل مع تناقضاتها فهم لم يكونا نتاج صراع مصالح أفرز تلك الحالة بل كانوا نتيجة غضب متراكم وجد نفسه فجأةً في الشارع وبدون مقدمات وجد نفسه في السلطة دون أن تكون لديه أي خلفية عن الحكم فسقط في مستنقع التنافس على غنائمها فدبت الصراعات بين أشقاء الأمس، تلك كانت لحظة العودة لشياطين السلطة الحقيقين فهذه فرصتهم السانحة للانقضاض من جديد على ما خسروه بالأمس فأستثمروا الانشقاق الحاصل بين الأشقاء والرفاق ولعبوا على وتر عودة الدولة القوية الصارمة التي تحمي الجميع وتحتضن الكل بشرط وحيد لا ثاني له الأمان لكم والسلطة ومكتسباتها لنا وما عدا ذلك لا لزوم له، فأسقطت عن سبق إصرار كل التعابير التي تمطق بها أنصار الحرية عبر عقد مضى وأصبح الأمن هو كلمة السر الوحيدة في معادلة الغبن هذه، فسقط عقد من الزمن بكل أحلامه وتضحياته وتشرده وضياعه عند لحظة واهية من البحث عن الدولة القوية والسيد الزعيم الأب الحاني وبعد أن كان الحلم بربيع للحرية والانعتاق ها نحن أمام ربيع الاستبداد يطل برأسه ويتربع على عرش المرحلة القادمة، لكن الغضب الكامن في النفوس سيكون سبباً في انطلاقة جديدة لثورات عارمة تسقط حسابات الجميع .