إبراهيم عيَّاد.. المناضل الغائب الحاضر (2)

الأكاديمي مروان سوداح  في ظل احتفالات أعياد الميلاد المجيدة ورأس السنة الميلادية هذا العام 2022م، افتقد المسيحيون والمسلمون ومدينة بيت لحم، مدينة السماء والخبز والمحبة والسلام والحضارة، فارسها المكافح الذي اشتهر بروحه الوثابة وصلابته السياسية وتألقه الوطني والقومي والعالمي، إذ كانت مشاركته في هذه المناسبات ذات معنى تقدمي في تآخي المسيحيين والمسلمين عَبر الدهور، والعنوان العريض الذي عَرَضَ على شعوب المَعمورة كلها رسالة السماء، بأن فلسطين كنعان أعلت بُنيانها خلال ألوف السنين لاتحاد لا تنفصم عُراه بين جناحي شعبها العربي من مسلمين ومسيحيين، و"أبونا عيَّاد" كان المُلهِم للجميع لرص الوَحدة وجمع الشمل، ولمزيدٍ من تعميق اللُّحمة الوطنية والعروبيّة، وإسنادها إلى أممية مُناصِرة للحقوق ونصيرة للأرض السليبة. وتأكيداً على ذلك، تدلى في عنق الأب عيَّاد صليب ذهبي صغير مع مُجسَّم مُصغَّر لفلسطين، يُجسِّد في عناقهما الدائم والرائع بأن الاثنين كانا لديه، وسيظلان أمانة في عنقه، وأنه كرس حياته في سبيلهما معاً، الكنيسة والمجتمع، الدين والوطن.  رَحَلَ الأب الخوري إبراهيم عيَّاد وفي أجندته الكثير من المشاريع والتطلعات لخدمه فلسطين والأمة العربية، فنشاطه لم يخبُ للحظة واحدة طوال حياته المُنتِجة نضالًا وخيراً، وترك فراغاً لا يمكن لأحد أن يشغله، فشخصية الأب عيَّاد نادرة في التاريخ، وتتكرر مرة واحدة كل قرن، حين يُقدِّم  التاريخ لنا مناضلاً يجمع الكثير من المشتركات في شخصيته الواحدة التي اشتهرت في مختلف بِقاع الكَون وبين شعوبه وقادته. كذلك، افتقدت قدس الأقداس وشعبها والشعب الفلسطيني برمته مسلمو ومسيحيو هذا الكوكب، "الرجل الرجل والكاهن المناضل". نقرأ في "هيئة شؤون الأسرى والمُحررَين لمنظمة التحرير الفلسطينية" التالي استذكاراً للأب عيَّاد: ما زالت الكنائس والمساجد تحنُ إليه ولأعمال الخير التي اشتهر بها، فافتقدته الكنيسة والصلاة والأصدقاء وكل حارة وبيت في المدينة المقدسة، وكما وصفه غبطة البطريرك ميشيل الصباح، بأن "الأب إبراهيم عيَّاد جزء من آلام وآمال كل إنسان، وقد رأى في قضية الشعب الفلسطيني قضية شعب يَطلب حريته، فأصغى إلى صوت العدل والحق، وسمَع صوت المظلومين وعمل من أجل خلاص الإنسان الفلسطيني"، كما وكتب الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات في مقدمة الكتاب الذي تناول سيرة الأب إبراهيم عيَّاد قائلاً: إن الأب عيَّاد ترك في مسيرة حياته الطويلة بصماته في كل مجال وميدان عمل فيه، فكان رجل الدين الجليل، ورجل القانون الوقور، والإنسان التقي الوديع والوطني المناضل الثائر، والكاتب والصحفي والمفكِر الذي استطاع أن يجمع بين هذه وتلك في شخصية متكاملة وفي توافق وتناغم وانسجام مُجسِّداً روعة التآخي الإسلامي المسيحي، وصلابة الوحدة الوطنية المتماسكة التي تكسرت على صخرتها كل المخططات والمؤامرات الشريرة ضد هذه الأرض التي بارك الله فيها العالمين".  تؤكد "هيئة الأسرى" بأنها "تُسلط الضوء على حياة وسيرة "المناضل العابر للقومية" إبراهيم عيَّاد" وتقول تحت عنوان متميز وجاذب "الكاهن المناضل": وُلد الأب إبراهيم عيَّاد في شهر أيلول عام 1910 في مدينة بيت ساحور في حي يُسمَّى "حي الرأس" حيث كانت تنتصب (زيتونة الخضر) كما كانت تُسمَّى باسقة في السماء، ضاربة جذورها في الأرض، كأنما تجسِّد صمود وثبات شعبنا الفلسطيني في وطنه وفرق ثراه الغالي عبر القرون والأجيال.    يقول الأب عيَّاد في مذكراته: اتخذتُ منذ الصغر مبدأ لي يتمثل في أن حب الوطن من الإيمان، ولذا فمنذ أن كنت طالباً حرصت على هذا المبدأ، فكانت أفكاري وأحاسيسي نحو الوطن تسير في خط مواز مع عقيدة الإيمان والدين لديّ، وقد تبلور أول إحساس وطني لديّ عندما عُيَّن على صفنا عريف أجنبي، فاعترضت على ذلك وحرضت الطلاب على ذلك.  ويستطرد الأب عيَّاد أيضاً: تابعت أخبار التحركات الوطنية في فلسطين في سنوات الثلاثينيات حيث تأسس العديد من الأحزاب الفلسطينية المناضلة الساعية إلى تحرير فلسطين ووقف الهجرة الاستيطانية اليهودية، فاندفعت أساند ثورة 1936 والثوار وانخرطت في المقاومة وخاصة من خلال الحزب العربي الفلسطيني، حزب الحاج أمين الحسيني وجمال الحسيني، رغم أنني لم أنضم إليه أو إلى أي حزب آخر لأنني أردت أن أكون فلسطينياً مستقلًا أعمل لأجل فلسطين وشعب فلسطين دون قيود حزبية.  "كان الأب عيَّاد جزءاً من الانتفاضات الفلسطينية ضد الانتداب والتهويد، يُشارك بموقفه الكنسي وأفكاره الروحية أبناء شعبه في المقاومة والصمود، ويقول بهذا بصدد: إن حكومة الانتداب البريطانية كانت تعامل الفلسطينيين معاملة قاسية جائرة وشرَّعت قانون الطوارئ الظالم ضدهم وفرضت عليهم الأحكام العرفية واتخذت ضدهم أشد أنواع العقوبات والتي كانت تصل إلى حدّ الإعدام". وشهد الأب عيَّاد النكبة وتشرُّد اللاجئين والمآسي التي وقعت على أبناء شعبه، ووقف بصلابة ضد كافة المخططات التي تستهدف قضية فلسطين، ونفته سلطات الاحتلال بعد حرب 1967 إلى خارج وطنه السليب، لكنه شهد في بيروت العدوان الإسرائيلي ومجازر صبرا وشاتيلا والمقاومة خلال الحصار الذي امتد 88 يوماً، فمنذ شبابه وحتى اليوم الأخير لحياته كانت سنواته حافلة بالعطاء على مختلف المستويات، فقد شارك في جميع الأنشطة الوطنية الفلسطينية، وهو يُعتبر شخصية وطنية مؤثرة ذات نفوذ شاسع، وبعد 93 عاماً توفي الأب عيَّاد، وخير شهادة بحقه ذكرها عبدالله التل قائد معركة القدس، تحت عنوان: "الخوري الشجاع"، قائلاً: وعاش معنا في أيام الحرب المُرَّة راهب عربي من الطائفة اللاتينية وهو الخوري إبراهيم عيَّاد، كان يرتدي لباس الكهنوت، إلا أن نفسه الأبيَّة لم يتسع لها ذلك الرداء الأسود، فانطلقت نفسه لتسهم في خدمة الوطن، مازجة الدين والدنيا، فعمل معنا بشجاعة وثبات، وأدَّى للقدس خدمات جليلة. والجدير بالذكر، أن المرحوم عبدالله التل مُفكر قومي، وأحد الشخصيات البارزة التي لعبت دوراً محورياً في التصدي للعدوان الصهيوني خلال الأربعينيات، وشغل عدّة مناصب رسميّة بينها محافظ بوزارة الداخلية، ومستشار بوزارة الأوقاف، كما عمل سفيراً بالخارجية، وعيّنه جلالة الملك المرحوم الحسين بن طلال عضواً بمجلس الأعيان عام 1971 تقديراً لجِهادِه، وبقي في هذا المجلس حتى وفاته سنة 1973.