دغري من صغري

د. مهند العزة
 
اتّسمت المقابلات الإعلامية إبّان عقد السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي بديكورات وموسيقى وأسئلة وأجوبة نمطيّة مرتّبة وموجّهة؛ احترفها المحاورون وضيوفهم من المشاهير من الفنّانين والمبدعين العرب.
الأجوبة المعلّبة كانت تأتي ردّاً على أسئلة تقليديّة محفوظة مغرقة في الملل؛ يوجّهها المحاور لضيفه ساعياً من خلال بَحلَقة عينيه وتحمير وجنتيه و"طعوجة" صوته إلى اجتذاب انتباه المشاهدين والمشاهدات وزيادة عدد المعجبين والمعجبات، وما حدا أحسن من حدا.
"ماذا يقول (س) الإنسان لـ (س) الفنان؟"، هذا عمدة الأسئلة السمجة التي كانت تعتبر ماركة مسجّلة في كل لقاء، والجواب عليها دائماً وأبداً يحمل مديحاً ذاتياً من المجيب: "أقول له... همممم... هممم.... جمهورك بحبك كتير فما تبخل عليه بوقتك ودايماً حاول أن تسعده"، ليبادر المحاور ذو البنطال المشدود "حِزّ" ساقه الأماميّ مثل حدّ السيف لكثرة ما استباحته المكواة ذهاباً وجيئة، مع القميص ذي "الياقة/القَبّة" العريضة التي تمتد وكأنها جناحين نبتا من عنقه؛ إلى التقاط  الخيط فيناوله السؤال الأكثر سماجةً: "يعني (س) الإنسان عاتب على (س) الفنّنان؟"، ودون أن يعرف المشاهد ولا الضيف ولا حتى السائل ما الّذي يعنيه هذا الكلام وما علاقة السؤال بالإجابة التي سبقته، فهاذ آخر همّ الجميع، إذ المهم تعبئة الهواء بأي هَرْي وهراء؛ يبادر الضيف فيجيب بحماس: "طبعا... لأن (س) الفنّان يسرق (س) الإنسان من أسرته وأصدقائه الّذين يعتبون عليه كثيراً لكنهم يتفهمون حبّه لفنّه وجمهوره ونبل رسالته".
"ما هو العيب الّذي يسبب لك المشاكل وتتمنى أن تتخلّص منه؟"، سؤال إيحائي آخر مفضوح يضع الكرة على قدم الضيف ليشوط في مرماه مشبعاً نرجسيّته الساذجة قائلا: "الصراحة. الصراحة هي العيب الكبير اللي بسبب لي المشاكل، والناس بتزعل مني بسببه"، وقبل أن يمرر المحاور الكرة مرةً أخرى للضيف ليكمل استعراض مهاراته الفرديّة ويشبع شوفنيّته المرضيّة، يسارع الضيف إلى إبراز عيب العصر الّذي يعاني منه –يا حرام-كل مشاهير العرب، فيستطرد وقد نزل بصوته إلى قرار نوتة "الصْوْل" على السلّم الموسيقي مع رعشة قوس على حباله الصوتيّة: "طيبة قلبي وافتراض حسن النيّة بالناس؛ من أكبر عيوبي التي سببت لي مشاكل كثيرة".
سؤال مُثَلَّج أخير وليس آخر الأسئلة منتهية الصلاحية، كانت تختتم به تلك اللقاءات العبثيّة: "لو قلنا لك في هذا البرنامج أننا سوف نحقق لك أمنية واحدة، ماذا تتمنى؟". هنا يصمت الضيف قليلا... ثم يضحك ضحكةً خفيفة... ثم يردّ الجميل للمحاور فيثني على سؤاله ويصفها بأنها صعبة ومحيّرة! ليبدأ بتلاوة الإجابة: "أتمنى... أتمنى... عارف... السؤال صعب.... بس عموماً عمري ما تمنيت شيء لنفسي... لذلك أتمنى أن تسامحني زوجتي عشان بنشغل عنها كتير بسبب فنّي وأن أظل قادراً على العطاء وإسعاد جمهوري". هنا يجد المحاور فرصته لإظهار خفّة دمّه ومواهبه الكوميديّة –بعيد عنكم-فيقول وهو يفتعل ضحكةً قهقهاتها معدودة بالواحدة مثل ضحكات محمد عبد الوهاب في فيلم "الوردة البيضاء" وغيرها من أفلام الأربعينيات: "بس هاتان أمنيتان، المدام والجمهور"، فيجيب الضيف ببديهة منقطعة النظير: "ما المدام هي جمهوري الأول الّذي يرى أعمالي قبل أن ترى النور!"، فتختلط الضحكات الخفيفة المفتعلة ثم ينتهي اللقاء بخاتمة لا تختلف عن المقدّمة إلا في عبارة: "إلى اللقاء في الحلقة القادمة".
هراء وهَري عدد من الشخصيات العامة اليوم وكلّ يوم، لا يختلف كثيراً عن تسخيف وتسويف حوارات ولقاءات تلك الحقبة، مع فارق بسيط: أنّ عدد كبير من المشاهير والمبدعين في عقدي السبعينيّات والثمانينيّات كانوا بسطاء وحسنوا النيّة، والأهم أنّهم  تركوا خلفهم أعمالاً إبداعيّة لعدد منها قيمة، أما جلّ أصحاب الياقات العالية من ضيوف البرامج الحواريّة واللقاءات الصحفيّة عندنا فماذا تركوا وما عساهم يتركون سوى رجع صدى أصواتهم التي لا تتجاوز جدران الأستديو أو صفحات الجريدة التي منّت عليهم بتصريح أو حوار، مع أعمال إبداعيّة بهلوانيّة لبعض هؤلاء تظهر ليونتهم المفرطة التي تدهش الجماهير وهم يراقبون قفزهم على الحبال، وانتقالهم المضطرد بين أغصان الأشجار، ودوران إبرة بوصلتهم  غير المنقطع، والتفنّن في السير زِقزاق والدخول من شارع والخروج من زُقاق... وبعد ذلك كلّه، عليك أن تسلم زمام عقلك وتصدّق أحدهم وهو يختتم الفقرة في السرك المنصوب، مخاطباً الجمهور المقهور المغلوب، فيمسك بالميكروفون وقد بلغ منه الحلقوم، فيصيح منتفضاً يقعد تارةً وأخرى يقوم؛ حالفاً حانِثا: "أنا  أعمل فقط من أجل الوطن والصالح العام وليس لي مطمع في منصب ولا موقع عام، ومن يعرفني يعلم أنني دغري من صغري".