ذكرى معركة الكرامة الخالدة

الدكتور عمر مشهور حديثة الجازي 
 

شرق غرب اللندني

 

لا يسعني البدء دون الترحم والدعاء لأبطال الجيش العربي المصطفوي والمقاومة الفلسطينية الشريفة شهداء معركة الكرامة الخالدة الذين سفكوا دماؤهم الطاهرة على ثرى الكرامة فكانوا ذبيحة المعركة ووقودها وأسباب انتصارنا المجيد.

إن الحديثَ عن الكرامة هو حديث تمتزجُ به مشاعر الفخر والإباء بمشاعر الحزن والحنين إلى ابناء الوطن شهداء المعركة، فالذكريات لا تنتهي والحديث يطول عن تاريخنا وماضينا المجيد ممثلاً بيوم خالد من أيامنا سيبقى ذكراهُ ماثلاً أمام أعيننا وفي ذاكرتنا إلى يوم الدين، فالكرامة محطة وقوف وتوقف في تاريخنا الأردني ومنعطفٌ هام في حياة كل أردني وأردنية أعادت الكرامة لهم الكرامة والعز والإباء.

وبروح النضال وإحياء ذكرياته، أصبحت الكرامة نهجاً لا ذكرى معركة فقط، وتجلى ذلك واضحا في أعين العدو بما جاء مؤخراً بصدور الإعلان الغاشم والهمجي للولايات المتحدة الأمريكية بتعاونٍ أعتدناه لصالح الكيان الصهيوني بإعتبار القدس عاصمة دولتهم الواهنة، وذلك بتحدٍ صارخ لكافة الأعراف والقوانين الدولية، ومرجعية مدينة القدس العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً، مما تبعه العديد من الوقفات والاحتجاجات في شتى أرجاء العالم، وشكلت الأمة العربية المجيدة جداراً معنوياً باسلاً يفيض كرامةً لمجابهة هذا القرار وضحده وأوصلت الشعوب العربية رسالتها واضحة جلية بخصوصية القدس وقدسية هويتها العربية بإعتبارها مهد الأديان السماوية جميعها.

إن الحديث في القدس حديثٌ ذو شجن، إذ يتصاهر العقل والقلب والروح في عشق بقعة جغرافية بذاتها، بقدسية ثراها ومحيطها وأماكنها، بتاريخها المليء بالحب والدم، وكما قال ابنُ مريدٍ ورضوى:

في القدس، رغمَ تتابعِ النَّكَباتِ، ريحُ براءةٍ في الجوِّ، ريحُ طُفُولَةٍ،

فَتَرى الحمامَ يَطِيرُ يُعلِنُ دَوْلَةً في الريحِ بَيْنَ رَصَاصَتَيْنْ

ومن ذات المنطلق، ما انفكت القدس يوماً عن المقاومة والنضال، ولسحرها أيضاً ما انفك الأعداء والمتربصين والأشرار عن محاربة القدس ومهاجمتها ومحاولة النول من مكنونها وأبعادها العقائدية والعاطفية، وما لبث سكانها الذين اعتادوا الصمود إلا وتعرضوا لشتى أنواع القهر والظلم، وتعدت الرغبة في القدس ساحات المعارك العسكرية لتصل الى ربوات القمم السياسية بشتى المنابر والكيانات.

نِصفُ قرنٍ مضت على تلك الملحمة الخالدة، في ذلك اليوم أبت قوات البواسل الأردنية إلا أن تدك مقرات العدو الإسرائيلي وأن تسحق أسطورة تفوقهم العسكري، فتقدمت جحافل الأبطال رجال المغفور له بإذن الله جلالة الحسين بن طلال طيب الله ثراه رافعةً الهامات بهمةٍ تعانق كَبِدَ السماء لمقاتلة الأعداء الصهاينة، فتلاقت الأكتف والسواعد الأردنية مع اخوانهم من أبناء المقاومة الفلسطينية البطلة، وامتزجت الصرخات والآهات مع بعضها البعض وأصوات القنابل والرصاص من كل جنب وصوب، فكانت الرجولة على أرض المعركة ملتحفة الخنادق الأمامية لا في الملاجئ الخلفية، فتجلت المقاومة في ممارسة وفداءً على أرض المعركة لا من خلال البيانات والبلاغات.

وفي يوم الكرامة أبى البواسلُ من المقاتلين إلا أن يبقوا موحدين مكبرين ومهللين بروحٍ قتالية يحسدون عليها، فكان سقوطهم الواحد تلو الآخر في ساحة المعركة واستشهدوا أردنيين وفلسطينيين، إذ أبى الأردني أن يفارق رفيق الدرب والسلاح الفلسطيني، فرافقه فوق ساحات المعركة وعلى أرضها شهيدا مسلما روحه الزكية للخالق عزَّ وجل. فاحتسبنا في ذلك اليوم أردنيين وفلسطينيين شهداء عند ربهم يرزقون، إذ تجلت القيمة الأساسية للكرامة أنها أعادت الاعتبار للعسكرية العربية التي ظلمتها هزائم الماضي على الأرض ولكنها ظلت وساماً على صدر منتسبيها الى أن تحقق النصر فجعلت الناس يلمسون بأيديهم ويشاهدون بأعينهم ما يتلونه في القرآن الكريم:

” يا أيها النبي حرَّض المؤمنين على القتال * إن يكن منكم عِشرونَ صابرون يغلبون مائتين * وإن يكن منكم مائة يغلبون ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون” “صدق الله العظيم”.

وفي هذه الذكرى اسمحوا لي أن أقتبسَ من أوراق والدي المغفور له بإذن الله الفريق الركن مشهور حديثة الجازي قائد الفرقة الأولى آنذاك والتي كان لها شرف صد العدوان الصهيوني في معركة الكرامة، مما قاله عند تلقيه نبأ بدء الهجوم الإسرائيلي:

“…وفي الساعة 5:25 رن جرس الهاتف، فنهضت بسرعة وقلت بدأ الهجوم بدأ قبل أن استمع إلى الركن المناوب يبلغني بأنه تمَّ اجتياز جسر الملك حسين، وأبلغته أن يصدر الأمر بفتح النار على حشود العدو أينما كانت، ولم أذكر في حياتي أنني صحوت بهذا الأسلوب، وما استقبلتُ يوما من أيام حياتي بمثل هذه السعادة والفرحة ولكن كل شيء عاد إلى طبيعته، وتوضأتُ وصليتُ صلاة الصبح وأخذت أدعو الله بعد الصلاة وأذكر أنني قلت: ” يا ربي كما تعلم نحنُ ندافعُ عن حق وهم يعتدون على حق فأرجو منك النصر يا رب”.

فقد كان رحمه الله يرددُ دائماً بأن قناعة المقاتل بالإيمان بالله والشهادة ساعد بشكل رئيسي في انتصار الكرامة.

وفي تأكيده على دور جيشنا البطل يقول رحمه الله: ” ثمة من يتنكر لدور الجيش العربي في الكرامة، ولكن القراءة الموضوعية للحدث تؤكد أن معركة الكرامة معركة جيوش، معركة بين جيشين، وقوة الحجاب التي اصطدم بها المهاجمون عند النهر هي قوة عسكرية، وبمجرد محاولتهم قطع الجسر أصدرت الأوامر بفتح النار، حيث أنه إذا اعتدى العدو فلا تنتظر الأوامر، وإنما أفتح النار فورا ودون انتظار تعليمات. أنا كقائد في الميدان لا أستطيع أن أسمح لأية قوة أن تدخل أرضي واقف متفرجا، ولهذا قررت الرد فورا، وهذا من مسؤوليتي. مسؤوليتي كقائد أن أتعامل مع الأرض ومع الميدان ومع المعطيات، وأن أثبت للإسرائيليين الخطأ الذريع الذي وقعوا فيه حين قرروا خوض معركة بهذا الحجم وأسقطوا من حسابهم الجيش العربي الأردني، وقد لقناهم درسا لن ينسوه بالتأكيد. ”

لقد نشأتُ في أسرةٍ علّمنا ربّانها المغفور له بإذن الله مشهور حديثة الجازي قائد معركة الكرامة الخالدة وفارسها، بأنّ مصير العرب هو مصير فلسطين، إن هَلكت هَلكوا وإن نَجت نَجوا، وأن التفريط بالقدس أو يافا يعني تلقائيا التفريط بأي عاصمة عربية لا قدر الله، وأن فلسطين هي عتبةُ الموت أو بوابةُ الخلاص.

إن القدس ليست مجرد جغرافيا، ولا مرجعية إسلامية أو مسيحية فحسب، بل هي نبضٌ حي في قلب كل حر يأبى الهوان والإمتهان، وكما تعلمت في مدرسة والدي المغفور له الفريق الركن مشهور حديثة الجازي، أن البوصلة التي لا تشير الى القدس هي بوصلة ضالة، ونحن لسنا من الضالين، وستبقى فلسطين الحبيبة قرة أعيننا ومنارة دروبنا وبها ومنها نسلك درب المجد والعزة.

ففي هذا اليوم الأغر الذي يطل علينا متبوعاً بمناسبات أخرى ميمونة على رأسها ذكرى يوم الأرض نستذكر أولئك الأبطال من أفراد الجيش العربي الذين تركوا الغالي والنفيس وزهدوا بالحياة ومتاعها لتبقى الكرامة الأردنية والعربية هي عنوانٌ وشعار ٌأبدي ليرسم وشما على صدر كل عربي أردني حر يؤمن بعدالة قضيته وحقه في بناء قوميته على ترابهِ الوطني، فعاشت ذكرى الكرامة الخالدة نبراساً نسير على هديه وعاش انتصار جيشنا الباسل وعاشت وحدة الشعب الأردني الفلسطيني الواحد وحمى الله أردننا الغالي.