تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بين التصعيد والتنفيذ

إيليا الربضي


لقد نصت المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789 على أن: {الحرية تكمن في القدرة على فعل كل ما "لا" يتسبب في إيذاء الآخرين, وذلك يعني أن حدود الحقوق الطبيعية للإنسان تتوقف عند حقوق الآخرين, والقانون هو وحدة من يقرر هذه الحدود}. هذهِ الوَثيقَةُ التي تُعتَبَرُ واحدةً منْ أعظمِ وثائقِ الثورةِ الفرنسيّة الأساسيّة التي وُضِعَت لحمايةِ الكرامةِ الإنسانيّة وعرَّفت مفهومَ الحقوقِ الفرديَّةِ والجماعيّة للأمّة، والتي تم إتخاذها فيما بعد أساسًا ومنهجًا يُحتَذى فيْ صِياغةِ وَبناءِ جُلّ وثائِق وإعلاناتِ الحقوق الدوليّة فيما بَعد, بِصِفَتِهَا هذه خارطةَ الطَريق واللَبَنَة الأساس التي تَمْ البِناءُ عَليها لقيامِ دولة القانون التي يعتبر عمودها الفِقريّ وأساسُ قيامها هو: "حماية كافة أعضاء مجتمعها بغض النظر عن إنتماءاتهم الدينية أو القومية أو الفكرية من خلال سيادة القانون ولا شيء غير سيادة القانون".
إلا أن الرئيس الفرنسي –والذي نتحفظ عن الحديث على طريقة وصولة لسدّة الحكم في الجمهورية الفرنسيّة- أبى وتعنّت إلا أن يضرب ما بناه أسلافه من إرثٍ أخلاقيّ قانوني مجتمعيّ عرض الحائط, من خلال تصريحاته التي أدلى بها إبان حفل التأبين الذي أقيم في جامعة السوربون، حيث قال: «لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض»، كردِّ فعلٍ لجريمةٍ نكراء قام بها أحد المتعصبين الذي لا يمثل إلا نفسه, مقاومًا الشر بالشر. وهو ما يعتبر تشجيعًا صريحًا منه على المضيّ قُدمًا في إنتاج الرسومات المسيئة للنبي محمد "النبي العربي الأمين", الذي حمل رسالة التقوى والسلام كباقي الأنبياء والرسل, -وإنّ كنت تابعًا لغير دينه- إلا أننا جُبلنا في بيتٍ كريم أرسى فينا صدق المحبة ومكارم الأخلاق فلا نقبل الإساءة للنبي محمد وقطعًا لا نقبلها كذا أيضًا للإسلام أو أيّ ديانةٍ سماويةٍ أخرى.

فدُولُ القانون الكرتونيّة تلك, باتت اليوم تتساقَطُ أَقنِعَتُهَا تِباعًا كَتَساقُطِ أوراقِ الشَجَر فيْ شَهرِ أَيلول, فالمُتابع للقصةِ بأبعادها المُختلفة يُدرك يقينًا بأن ماكرون بدأ بحملةِ الإسلامفوبيا في فرنسا منْ خلالِ دِفاعِهِ عنْ صَحيفَةِ شارل إيبدو "السياسيّة الهزليّة" وإعتباره إساءتها للرموز الدينيّة -وما يترتب على تلك الإساءات من أضرارٍ معنويّة لقرابة ثلاث مليارات نسمة حول العالم- هو بمثابةِ "حرية تعبير"؛ لأسبابٍ ديموغرافيّة وجيوسياسيّة تربطه والصحيفة.
تِلكُمُ التصريحات المُسيئة, بِالتَأكيد تَحمِلُ في طيّاتها أبعادًا أكبر بكثير من مُجرد رغبته في محاربة ما أسماه في أحد تصريحاته "بالإنعزال الإسلامي" في فرنسا، وقبل الخوض في الهدف الحقيقي من وراء شنِّهِ تلك الحملةَ يجدر بنّا الإعتراف بأنه ما كان لأيِّ رئيسٍ غربيّ أنّ يتطاول بهذا الشكل لولا وجود المنبطحين من أتباع الغرب فالدول التي تلحق بركب قوى الشر وتطيعُ أوامرهم خلافًا لرغبةِ شعوبها, لم تصدر بيانًا رسميًا "تشجب فيه على الأقل" تلك التصريحات ليقتصر رد الفعل على أبناء تلك الشعوب الذين لم يبيعوا قضيتهم الأولى والأصيلة.
فلا يختلف إثنان اليوم على أن المسلمين –الأشخاص- يعيشون في يومنا هذا أزمةً بسبب بُعدِ "البعض منهم" عن صحيح الدين وتخليهم عن حمل رسالة السماء, ولكن الإسلام يا ماكرون "دين" ولا يمر بأزمة ولا يُخشى عليه من الكساد أو التشتت أو الضياع, لأنه ليس من صناعةِ البشر, ولا يعتمد على حمايةِ الخُلقِ, فالذي حفظه (15) قرناً كاملًا كفيلٌ بحفظه أبد الدهر.
إلّا أن البعض من ضعاف النفوس حولوا صدق الإسلام إلى تجارةٍ رابحه حملها بعض رجالات (تجار) الدين الفاشلين فأساؤوا إلى دينهم قبل نفسهم, والإسلام أيضًا يا ماكرون قضيةٌ عادلة ترافع عنها محامون فشله فَخَلَطَت أنت وأمثالك عامدين بين القضية العادلة ومحاموها الفاشلين, فأنت تعلم عِلمَ اليقين الفرق بين الأمرين جيدًا, ولكنك تصر على خلط الأوراق.
إننا نريد فقط من الرئيس الفرنسي أن يطالع ما قاله كبار المفكرين الفرنسيين عن الإسلام, ليعرف ما هو الإسلام حقًا ويفرق ثانيًا بين هذا الدين وتصرفات بعض المسلمين الذين أساؤوا لدينهم وأوطانهم, فهل من المتصور أنّ نُحمِّلَ رسالة السيد المسيح السَمِحَه النقية التقيّه الطاهرة قتل الفرنسيين لمليون مواطن جزائري أو إحتلالها لبلاد المُسلمين بالسلاح والقوة وقتلها لآلاف المصريين أثناء الإحتلال الفرنسي لمصر..؟ قطعًا لا !!
لذلك فإنّ الحاجةَ اليوم باتت ملحّةً أكثر من أي وقتٍ مضى إلى قراءةٍ إصلاحيةٍ للإسلام بالمنظور الغربيّ، وإنَّ مثل هذا الإصلاح لا يقوم على تشويه سمعة الإسلام كدين أو المجتمعات الإسلامية كشخوص كما فعل الرئيس الفرنسي, بل إن المطلوب منّا هو مواجهة بعض المؤسسات الإسلامية بإتخاذ موقف واضح و صريح إزاء بعض الفتاوى الإسلاميّة المبرّرة للعنف والناتجة عن التأويلات التي يعتنقها بعض المنتسبين إلى بعض المذاهب.
وإن ما نشهده اليوم بشكلٍ عام من عملياتٍ إجراميّه تفتك بأرواح البشر لغاياتٍ ومقاصدٍ سياسية برداءٍ وغطاء دينيّ ما هي إلا إمتدادٌ لرداتِ فعلٍ عكسيةٍ متبادلة, وهو ما كنّا قد حذرنا منه صراحةً في إحدى مقالتنا المنشورة قبل أزود من عام ونيّف والموسومة بعنوان: "إيديولوجيا الفكر المتطرف والفريضة الغائبة عن أبصار المجتمعات الغربية .. مجزرة مساجد نيوزيلندا إنموذجًا", وإن ما تشهده فرنسا بشكلٍ خاص هو تحديدًا ما كنّا قدّ أشرنا إلى خطورة تفاقمه و وقوعه.
أخيرًا وليس آخرًا, إن مهمتنا كبشر في هذا العالم هو أن نساند بعضنا البعض في سبيل النهضة البشرية والمجتمعية، وأن نحب الآخرين كما نحب أنفسنا وألا نأخذ مكان الخالق في إدانة البشر, لكي تستمر البشرية في وجودها، وذلك دون النظر إلى معتقدات الآخرين، عرقهم، جنسهم أو حتى إيمانهم؛ لذلك فإن ما نراه يحصل اليوم يجعلنا لزامًا أن نقف ونتأمل حقيقةَ ما آلت إليه البشرية في يومنا هذا من أوضاعٍ محزنة ومترديّة تبكي عليها القلوب وتدمع عليها العيون، فإن قتل الأبرياء بسبب إنتمائهم لعرق أو دين أو عقيدة معينة أمر لا تتصوره العقول, حيث إن من يعتقد أن طريقه الى الله يمر عبر الإساءة للغير أو الدماء والقتل لا يمكن أن يُعد من البشر قطعًا فالتطرف والإرهاب مرفوضٌ بكافة أشكاله وأطيافة وصوره وهذا ما أكد عليه القرار رقم (2249) الصادر عن مجلس الأمن والذي أكد بأن "|{الإرهاب بجميع أشكالة ومظاهرة يمثل أحد أشد الأخطار التي تهدد السلم والأمن الدوليين وأن أي عمل إرهابي هو عمل إجرامي لا يمكن تبريرة بغض النظر عن دوافعة وبصرف النظر عن توقيته أو هوية مرتكبيه}|" .. فكيف بالحُريّ لو كان ضد البشر!!
ختامًا, نعتقد بأن الشرارة الفرنسية ستكون عبارة عن مقدمة لموجاتٍ من الإضطرابات السياسية التي ستهز أركان العالم وتنشر الرعب في حنايا قلوب الشعوب كافة؛ إن لم يتم تكاتف الجهود الدولية -حقيقيًا لا صوريًا-، لمواجهة ومكافحة كافة مظاهر وأشكال الفكر المتطرف والإرهاب أينما وجد، فعلى العالم اليوم أن يتكاتف أسوةً أخوةً يدًا بيّد لمواجهة جذور هذه الظاهرة، فعملية إلقاء المسؤولية على دين دون آخر أو جنس دون غيره لن تؤدي سوى لمزيد من العنف والتعصب، وفي النهاية الضحايا سيكونون من كل (لون وجنس وعرق ودين) من بني البشر.

نسأل الله اللطف بالبشريّة من شرِ قادم الأيام ...