محمد بني فارس يكتب: من دروس الحياة (١)

جهينة نيوز -قبل ان التحق بالامن العام عام ١٩٧١ بدأت حياتي العمليه كتلميذ مرشح طيار وأبتعثت في دوره تدريبيه لبريطانيا عام ١٩٧٠ لتعلم الطيران حيث لم يكن في ذلك الوقت مدرسه للطيران في سلاح الجو الملكي الاردني في الاردن.

لن اتحدث عن التجربه الاولى والصدمه الحضاريه لشاب في التاسعة عشر ربيعا من عمره يعيش في بيئه محافظه في احدى قرى شمال الاردن لم يكن بها في ذلك الوقت كهرباء ولا انابيب للمياه ولا طرق معبده ، ولا ولا ولا ... 

ولكنني سأتناول في حديثي قصة تعلمت منها درسا لا ازال اذكر تفاصيلها الدقيقه بعد خمسين عاما على حدوثها، وارويها هنا لجيل الشباب الذين من حقهم علينا ان ننقل لهم ما تعلمنا من دروس في الحياه.

ذات مره وانا في القاعده الجويه في مقاطعة يوركشير في شمال بريطانيا كان عندي رحله طيران تدريبيه ومن متطلبات الرحله ان يكون مع الطيار خارطه للمواقع التي يطير فوقها ، 

وكالعاده ذهبت الى غرفة العمليات في القاعده للاعداد لرحلتي وتناولت خارطة بريطانيا وكانت الخرائط متوفره لنا في غرفة العمليات وجلست على طاوله وكان يقابلني تلميذ بريطاني من سربي يقوم بالاعداد لرحلته. 

شرعت بقص الخارطه ووضع العلامات الملاحيه المطلوبه عليها وقبل ان اقوم بوضع الجلاتين نظرت اليها فلم تعجبني كثيرا فقمت بتمزيقها واحضرت خارطه اخرى واخذت اعمل عليها كما عملت في المره الاولى ولسؤ الحظ لم يعجبني ما عملته للمره الثانيه وقمت بتمزيقها ايضا واحضرت خارطه ثالثه . 

في هذه المره كان التلميذ الانجليزي الفتى اليافع مثلي وزميلي في السرب ينظر الي بدهشه واستغراب ، 

وضع Bob Baily كلتا يديه على خديه وخاطبني بعصبيه غير معهوده بالانجليز قائلا : ما الذي تفعله ايها الاردني ؟ انت استهلكت ٣ خرائط لحد الان ، هذه الخارطه التي مزقتها تكلف سلاح الجو الملكي البريطاني جنيه استرليني وانت قمت بتمزيق خارطتين لحد الان وغير أبه لما تفعل .

كانت ردة فعلي بعصبيه لا تقل عن عصيبته قائلا له ما دخلك ؟ انت تلميذ مثلي مثلك وتلاسنا في الكلام فذهب و شكاني الى قائد السرب الذي أنبني بالطبع وأعطاني محاضره عن المال العام وضرورة المحافظه عليه.

 كنت اعتقد ان زميلي المذكور هو صديق لي حيث كنا نخرج سويا في كثير من الاحيان في عطلة نهاية الاسبوع . 

لم ادرك معنى النقاش الساخن معه الا بعد ايام حينما استعرضت شريط ما حدث وادركت انه عندما تعارضت علاقاتنا الشخصيه مع مصلحة بلده بريطانيا ضحّى بهذه العلاقه لصالح بلده.

ما اروعه من درس تعلمته في مقتبل عمري وبداية حياتي العمليه !!! ...صرت ومنذ ذلك الوقت وبعد عودتي الى بلدي وعندما ارى مثلا اناره زائده في المكاتب في النهار او مياه تتسرب من صنابير مياه الحمامات ، او كثرة استخدام الهواتف الرسميه في المكالمات الخاصه او ..او..او ....يقفز اسم Bob Baily الى ذهني فاغضب لما اشاهد واحاول ان اتخذا اجراءً لتصويب الوضع .

من الواقعه ادركت ان حب الوطن ليس بالشعارات بل بالممارسة العمليه ... ادركت كيف ان بريطانيا حكمت العالم لعدة قرون ... ادركت كيف ان صغيرهم مثل كبيرهم لا عواطف ولا مجاملات على حساب مصلحة الوطن .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما الذي يمنع شعوبنا العربيه ان تكون مثل هذه الشعوب في غيرتها على اوطانها ؟ ...لماذا لا ننظر الى المال العام كانه مالنا الشخصي ونحافظ عليه ؟ 

ابتعدنا عن موروثنا الثقافي الغنى الصالح لكل مناحي الحياه مع الاسف واستفاد من هذه الثقافه الغرب وطبقوا الكثير منها في مناحي حياتهم 
الحديث في هذا الجانب يطول. 

تحيه لكل مواطن غيور في بلدي 

اللواء المتقاعد محمد بني فارس