جائحة كورونا وسلامة النظام المصرفي

منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، نشرت عدة مقالات عبرت فيها عن قناعتي بأن أصحاب القرار في العالم لم يقومون بمعالجة الأخطاء التي أدت إلى اندلاع الأزمة بصورة شاملة، حيث تم تصحيح جزء منها فقط بينما بقيت غالبيتها على حالها. وذكرت أن ما سيحدث هو أن الكثير من البلدان سوف تمر بسنوات من النمو لكن كي تعود مرة أخرى الى الركود وذلك بسبب الأخطاء الكامنة التي لم يتم معالجتها. ففي ثمانينات القرن الماضي، تعرضت دول امريكا اللاتينية لأزمة ديون حادة، وقد تطلب ذلك أشكال من التدخلات القوية من الحكومات والبنوك المركزية لمعالجتها استمر لعدة سنوات، حتى تمكنت من التغلب عليها، لكنها اليوم تكاد تعود إلى نفس المربع لأن هناك أخطاء لم يتم معالجتها. وقد نبهت في مقالاتي هذه إلى خطر نشوب أزمة اقتصادية ومالية أخرى إذا لم تتم معالجة تلك الأخطاء.

ما أعادنا للحديث عن هذا الموضوع اليوم هو السباق المحموم للبنوك المركزية في العالم لمكافحة تداعيات جائحة كورونا باستخدام نفس السياسات النقدية التي اتبعت في العام 2008.وبحسب وكالة بلومبرج، فقد شهدت الشهور الأخيرة عودة، ليس فقط السياسات النقدية التي تم استخدامها لأول مرة على نطاق واسع في أعقاب انهيار بنك ليمان براذرز رابع أكبر بنك استثمار في الولايات المتحدة في خريف 2008، مثل التخفيف الكمي، وإنما أيضا تبني سياسات غير مسبوقة في مواجهة تداعيات جائحة فيروس كورونا خلال العام الحالي، فقد اتجهت البنوك المركزية مثل مجلس الاحتياط الاتحادي نحو شراء أنواعا مختلفة من السندات. وتبنى البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدةالسلبية وتبنى البنك المركزي الأسترالي منهج نظيره الياباني في السيطرة على العائد على السندات.فبحسب المحللين الاقتصاديين في مؤسسة "بنك أوف أمريكا جلوبال ريسيرش" فإن البنوك المركزية في العالم خفضت حتى نهاية يوليو الماضي أسعار الفائدة 164 مرة خلال 147 يوما وضخت 5ر8 تريليون دولار لتحفيز الاقتصادات.

وفي ظل استمرار الغموض والشكوك حول تعافي الاقتصاد العالمي واستمرار فيروس كورونا المستجد في إثارة رعب أصحاب العمل والعمال، فإن الاحتمال الأقوى هو استمرار السياسات النقدية فائقة المرونة لعدة سنوات قادمة، حتى لو كان معنى ذلك أن تساهم البنوك المركزية في ارتفاع مصطنع لسوق الأوراق المالية وإشعال شرارة ارتفاع أسعار المستهلك، مما يعني بالفعل تراكم الجوانب السلبية في خواصر النظام المصرفي العالمي مثل تراكم الديون وتدهور نوعية المحافظ الاستثمارية.

لقد أشرنا سابقا بصورة خاصة إلى جوانب الضعف التي يعاني منها النظام المصرفي والمالي العالمي، حيث يدفع استمرار معدلات الفائدة الصفرية المستثمرين نحو البحث عن منتجات وخدمات مالية ذات مخاطر عالية وسيولة منخفضة. كما أدت سياسة أسعار الفائدة الصفرية والمنخفضة إلى زيادة مديونية الشركات بشكل كبير لتستفيد من معدلات الفوائد المتدنية، وشمل ذلك الاقبال الكبير على الاقتراض من قبل شركات غير صلبة تشغيلياً. ويؤكد البنك المركزي الأوروبي أن 45 في المائة من سندات ديون الشركات مصنفة بدرجة «بي بي بي»، أي في الدرجة الاستثمارية الدنيا. بينما زاد حجم السندات ذات العائدات السالبة إلى نحو 15 تريليون دولار. ففي حال التصحيح المفاجئ لأسعار الأصول المالية، فإن ارتفاع مخاطر القروض الممولة لهذه السندات قد تتفاقم وتحدث خلل في معظم أو جزء أساسي من النظام المصرفي والمالي، وتنتقل العدوى إلى الاقتصاد الحقيقي.

كما سلطنا الضوء على تحذير البنك المركزي الأوروبي من أوضاع القطاع المصرفي الأوروبي. فمنذ بداية العام الماضي لم يتقدم ذلك القطاع كثيراً في رحلة معالجة مشكلاته الهيكلية الخاصة بالعوائد والربحية. كما أن تخفيض معدلات الديون المعدومة والمشكوك في تحصيلها لم يحصل إلا بفضل هندسات مالية معينة، وبفضل تكبير حجم الإقراض الآمن حتى يصغر نسبياً غير الآمن من الإجمالي. لكن إذا طال أمد التباطؤ الاقتصادي، فإن معدلات الديون الرديئة سترتفع أو ستصعب هندستها لتخفيض نسبتها من إجمالي المحافظ الائتمانية.

إننا اليوم أمام تحدي مزدوج، فمن ناحية يقع على عاتق النظام المصرفي العالمي مهمة أساسية وحيوية في التصدي لتداعيات جائحة كورونا. ومن ناحية أخرى، فأنه لا يزال يعاني من جوانب خلل. ويخشى إن سياسات التسيير الجديدة قد تدعمه في المدى القصير، ولكن لن تحل جوانب الخلل فيه على المدى البعيد. وبينما قد تساعد الإجراءات المؤقتة التي اتخذتها البنوك المركزية لمساعدة البنوك على أداء دورها في الوقت الراهن، فأن المطلوب أيضا اتخاذ إجراءات رقابية وتنظيمية موازية تستهدف جوانب الضعف الكامنة على المديين المتوسط والبعيد من خلال التركيز على تحسين جودة الأصول ومعالجة المديونيات المصرفية وتعزيز ملاءة رأس المال ووضع قيود على الاستثمارات والمضاربيةوغيرها من الإجراءات لكي يكون النظام المصرفي أكثر سلامة وقادر على تأدية دوره في تعزيز آفاق النمو الاقتصادي.