الشيخ صالح كامل كما عرفته
وافته المنية قبل أيام، لم تكن للمقدمات البديهية، ولا للمظاهر الشكلية، ولا لطبائع الأشياء دورًا يذكر في الفراق، رحل الشيخ صالح بن عبدالله كامل بعد تاريخ حافل بالعطاء، بالبذل والاعتناء، بالمعاناة والابتلاء، منصة معرفية لطالما عاصرنا أدق ملامحها، ولطالما استقينا من ذروتها جميل وقفتها، وشموخ طلتها، وعظيم مهابتها.
التقيته لأول مرة في حوار صحفي خاص في عام 1986، قدمني إليه العلامة الأردني والصيرفي الأيدلوجي المهيب الدكتور سامي حسن حمود رحمة الله عليه، كانت الساحة آنذاك تعاني من فراغ التطبيق لمفاهيم الاقتصاد الإسلامي، فجاء الدكتور حمود بالفكرة إلى الشيخ صالح الذي كان يبحث بدوره عن مأرب يسد به الذرائع، وعن طريق مفتوح يدخل من بواباته العنيدة إلى عالم الصيرفة الإسلامية، وبالفعل استقر الرأي آنذاك على تأسيس شركات مساهمة معفاة ذات رأسمال متغير تعمل وفقًا للشريعة الإسلامية، حيث صدر القرار الذي كان يحمل الرقم 17 لعام 1986 حاملاً في طياته فتحًا مصرفيًا جديدًا لتأسيس شركات «أوفشور» تعمل وفق الشريعة السمحاء وتتخذ من مملكة البحرين مقرًا رئيسيًا لها.
مرَّت الأيام والليالي، والشيخ صالح كامل يحاول أن ينفذ بـ«سلطان» إلى سوق البحرين للأوراق المالية «البورصة» التي كانت قد تأسست في يونيو من العام 1989، تم تأسيس شركتي التوفيق للصناديق الاستثمارية والأمين للأدوات المالية، كانت تلك هي الانطلاقة الأولى لسوق رأسمالية إسلامية، وكانت النواة التي تلتف حولها كائنات الصيرفة المشرعنة من خلال تجارب أولية عن طريق مجموعة مصارف فيصل الإسلامية التي أسّسها المغفور له الأمير محمد الفيصل آل سعود، إلى جانب تلك التي تحملت مشقة البدايات مع مصرف دبي الإسلامي، بالإضافة إلى الفكرة البكر لبنك ناصر الاجتماعي.
كان الشيخ صالح دؤوبًا، مثابرًا، صابرًا ومقاتلاً، لم يكف عن المحاولات الخلاقة في الدخول مع مجموعته «دلة البركة السعودية» إلى عالم الصيرفة المشرعن إسلاميًا وفقًا لوصية والديه بألا يتعامل مع «الربا» أينما كان وأينما حل.
وبالفعل قام المغفور له بتأسيس بنك البركة الإسلامي في لندن، أي في عقر دار رأس المال الغربي، وأذكر أن الشيخ صالح قد عانى الأمرّين هناك بعد أن حقق مصرفه نجاحات فارقة، وبعد أن اجتذب من الودائع والحسابات المصرفية من غير المسلمين ما أزعج السلطات البريطانية آنذاك، الأمر الذي حدا ببنك إنجلترا «أو مصرف إنجلترا المركزي» بإغلاق البنك متذرعًا بأنه لا يتبع لسلطة نقدية أو مالية إشرافية في بلده الأم، وهي المملكة العربية السعودية، حيث كان خاضعًا لإشراف وزارة التجارة السعودية وليس لمؤسسة النقد العربي السعودي.
حزم الشيخ صالح أمتعته حزينًا وغادر عاصمة الضباب على مضض، وأذكر حينها أنني أجريت معه حوارًا ساخنًا حول المؤامرات التي يتعرّض لها المال العربي في الخارج وتم نشره في منتصف تسعينيات القرن الماضي بصحيفة العالم اليوم التي كان قد أسسها مع شركة مصرية تحمل إسم الصحفيون المتحدون.
كان الشيخ صالح مقاتلاً صنديدًا، لا يغلبه اليأس فدخل بالتوازي إلى صناعة «الميديا» من بوابة راديو وتلفزيون العرب أول قناة عربية خاصة «ART»، وبعد ذلك أطلق مع الزميل عماد الدين أديب من القاهرة مجلة كل الناس الأسبوعية وصحيفة العالم اليوم الاقتصادية اليومية التي شرفت بالعمل فيها ثمان سنوات متصلة «1991-1998» كمدير لمكاتب منطقة الخليج آنذاك.
رغم الانتصارات الإعلامية للشيخ صالح وتفوّقه في مجالات الأعمال والتجارة إلا أن هاجس الصيرفة الإسلامية لم يفارقه لحظة، حتى التقى في نهاية تسعينيات القرن الماضي مع المصرفي البحريني المنظم إداريًا وفكريًا ومهنيًا وكان يعمل رئيسًا تنفيذيًا لمصرف ABC بنك الإسلامي، ونائبًا للرئيس التنفيذي عن المنطقة العربية للمجموعة عدنان بن احمد يوسف.
هنا بدأت المياه تجري من جديد في نهر كان متلاطم المصبات والمنابع، متلاطف الأمواج مع من يستطيع السباحة بالتوازي مع التيار، التقى الشيخ صالح مع المصرفي المعروف عدنان يوسف ليبدآ معًا ملحمة نجاح فارقة استمرت زهاء العشرين عامًا تم خلالها الاستفادة من دروس الماضي، وتحويل العثرات إلى انتصارات، والمفترقات إلى إنجازات.
انطلقت مجموعة البركة المصرفية من المنامة حيث المركز أو المقر والترخيص من سلطة إشرافية هي مصرف البحرين المركزي «مؤسسة النقد سابقًا»، ومن ثم الإبحار أفقيًا ورأسيًا من الشرق إلى الغرب إلى نحو 15 دولة حول العالم، و700 فرع تعمل على مدار الساعة، وعشرات المنتجات المصرفية الإسلامية التي تفوقت على نظيراتها، واحتلت مواقع متقدمة في كل المحافل والمنصات الإقليمية والعالمية.
نجح الرفيقان الشيخ صالح وعدنان في تأسيس حالة فارقة من الثقة المتبادلة، والفهم المتعمق، والكياسة المرباة على الإيمان بفكرة، والالتقاء على حق، والالتحام مع مبدأ، رحمة الله على الشيخ صالح، مصرفيًا فوق العادة، وإنسانًا فائق القامة والمهمة والتفاني، وإنا لله وإنا إليه راجعون.