معركة قضائية شرسة تندلع على ملكية لوحة موناليزا مثيرة للجدل
بشعرها الداكن المنسدل وابتسامتها الخلابة، تحمل «موناليزا أيزلورث» تشابهاً لا تخطئه العينبأختهاالموجودة في متحف اللوفر.
وبالنسبة لبعض الخبراء، تشير أوجه التشابه تلك إلى أن الرسمة ليست إلا نسخة، رغم أن بعض مؤرخي الفن يعتقدون أنها نسخة غير مكتملة تسبق اللوحة الموجودة في اللوفر، ورسمها ليوناردو دافنشي بنفسه.
هذا الجدل متصاعد منذ عقود، ولكن اللوحة الآن تقف في القلب من نزاع جديد، حيث تندلع معركةٌ قضائية حول ملكيتها، بحسب ما ذكرته شبكة CNN الأمريكية السبت 7 سبتمبر/ أيلول 2010.
وإذا كان بيع اللوحة الأخرى المثيرة للجدل (سالفاتور مندي) بمبلغ قياسي عام 2017 أمراً خطيراً، فإن ملايين الدولارات باتت في مهب الريح فيما يخص لوحة «موناليزا أيزلورث».
لوحة مخفية لعقود
وقضت اللوحة التي يُسميها البعض بـ «الموناليزا الأولى» معظم العقود الخمسة الماضية مخفية في خزينة بنك سويسري، إلى أن حصلت عليها مجموعة شركات سرية عام 2008، ومنذ ذلك الوقت وهي تظهر في عدد من المعارض، أبرزها معرضان في سنغافورة 2014 وشنغهاي بعد عامين من ذلك.
وبعد ذلك، في يونيو/حزيران الماضي، عرضت في بالازو باستوجي بفلورنسا في إيطاليا، وهي المرة الأولى التي تظهر فيها اللوحة على الملأ بأوروبا خلال القرن الحالي. ومع انتهاء العرض، ظهر شخص مجهول الهوية وادعى ملكيته لربع اللوحة.
وقال جيوفاني باتيستا بروتي محامي هذا الشخص (الذي رفض في مقابلة عبر الهاتف وصف موكله إلا بأنه «أسرة أوروبية مميزة»)، إن لديه دليلاً تاريخياً يُظهر أن مالك اللوحة السابق وافق على بيع 25% منها، ومن ثم آلت ملكيتها إلى موكله عن طريق الميراث.
وخوفاً من أن تعود اللوحة إلى خزانة البنك السويسري، طالب بروتي محكمة في فلورنسا بالحجز عليها؛ بهدف استبقائها في إيطاليا بالمقام الأول، إلى حين إتمام التحقيق في ملكيتها. وستستمع المحكمة إلى هذا الطلب يوم الإثنين القادم.
لا يزال مالكو اللوحة -أو أغلبيتهم من وجهة نظر بروتي- مجهولين، وبالتالي لا يمكن التواصل معهم للحصول على ردهم.
غير أن مؤسسة مقرها زيورخ تُسمى مؤسسة الموناليزا، تم إنشاؤها للنظر في تاريخ اللوحة (تصر على أنها منفصلة ومتمايزة عن مالكي اللوحة)، وقالت في رسالة بريد إلكتروني إن ادعاء العائلة «بلا أساس». وأكدت مؤسسة الموناليزا لشبكة CNN الأمريكية، أنها ستشارك في جلسة المحكمة.
قرنٌ من التساؤلات
وتعود مزاعم الأسرة غير المعروفة إلى التاريخ الحديث للرسمة، وفي حين أن هناك فجوات ضخمة بالمصدر الأول للوحة، فإن المؤرخين الفنيين يُرجعون قصة اللوحة إلى بداية القرن العشرين، حين جرى اكتشافها أول مرة على يد الفنان ومقتني الأعمال الفنية هيو بلاكير في منزل إنجليزي قروي.
ونقل بلاكير اللوحة إلى الاستوديو الخاص به في أيزلورث، وهي ضاحية غرب لندن وسميت اللوحة باسمها لاحقاً.
ونظراً إلى اقتناعه بأن اللوحة نسخة أولى لليزا ديل جيوكوندو المرسومة في لوحة الموناليزا الموجودة بمتحف اللوفر، نشر جون إيري، زوج والدة بلاكير، بحثاً يعلن أنها من أعمال ليوناردو، الذي كان معروفاً بإخراج أكثر من نسخة للرسمة نفسها.
وبعد وفاة بلاكير، بيعت اللوحة لهنري بوليتزر، مقتني اللوحات الفنية. وكان كبلاكير وإيري واثقاً بأنها لوحة أصلية بريشة ليوناردو، بل ذهب لأبعد منهما بنشره كتاباً عام 1966 بعنوان «Where is the Mona Lisa»، وفيه يحاجج بأن اللوحة التي لديه هي بالفعل الرسمة الوحيدة التي رسمها ليوناردو لجيوكوندو.
نقل بوليتزر رسمته إلى سويسرا لتخزينها عام 1975، وفور وفاته بعد ذلك بأربع سنوات، تُركت لشريكته إليزابيث ميير، وحين ماتت ميير نفسها عام 2008، استحوذت مجموعة شركات دولية على «موناليزا أيزلورث»، وهي المجموعة التي تمتلكها الآن. وفي العام نفسه تأسست مؤسسة الموناليزا للبحث في أصول اللوحة.
غير أن بروتي يزعم أن آل ميير لا يملكون سوى ثلاثة أرباع اللوحة، وقال إنه عام 1964، باع جاليري بوليتزر 25% من اللوحة إلى صانع بورسلين مقيم في البرتغال يُسمى ليلاند جيلبرت.
واطلعت شبكة CNN الأمريكية على نسخة مما يبدو أنه أمر شراء صادر عام 1964، يُظهر أن بوليتزر يوافق على بيع 25% من اللوحة مقابل 4000 جنيه إسترليني (أي ما يعادل اليوم نحو 98000 دولار أمريكي). ويقول بروتي إن عملاءه هم ورثة جيلبرت؛ ومن ثم لهم حق في حصة من اللوحة.
وقد صرح محامٍ عن مؤسسة موناليزا ماركو باردوكي، بأن مزاعم بروتي تبدو بلا أساس، وأكد أنه لا يتحدث نيابة عن مالكي اللوحة، ورغم أنه لم يعلق تحديداً على أمر الشراء، فإنه قال إن الدليل المقدم إلى المحكم يُظهر بالتحديد أنَّ وريث بوليتزر هو المالك الوحيد والكامل للوحة باستثناء أي أطراف أخرى.
المشاحنات القانونية
وقد تكون المكاسب هائلة، إذ أصبحت لوحة «سالفاتور مندي» المذكورة أعلاه أغلى عمل فني يباع في مزاد علني على الإطلاق، بعدما بيعت مقابل 450.3 مليون دولار في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017.
وقد كان يُنظر إليها هي الأخرى على أنها نسخة فترة طويلة قبل أن يشتريها مجموعة من تجار الأعمال الفنية مقابل ما يقل عن 10 آلاف دولار عام 2005، على أمل بيعها بسعر أعلى.
وبعد استعادة اللوحة وإجراء كثير من الأبحاث عليها، كشف المتحف الوطني بلندن النقاب عنها في معرض ليوناردو الذي ينظمه، وأدى هذا الدعم في النهاية إلى بيعها التاريخي.
وربما يأمل أصحاب لوحة «إيزلورث موناليزا» الحصول على مقابل مماثل، إذ يُعتقد أن أقل من 20 لوحة من لوحات ليوناردو ما زالت باقية، ولوحة «سالفاتور مندي» هي اللوحة الوحيدة، من هذه اللوحات، التي لا تزال في حوزة أفراد.
لكن وفقاً لبروتي -الذي يعمل في القضية دون مقابل مادي- الحصول على أرباح طائلة مستقبلاً ليس هو دافع الأسرة التي وكّلته. وقال إن القضية إنما تتعلق بالاستفادة من ملكية اللوحة، لتصبح متاحة للجمهور مجدداً.
وأضاف: «بصفتهم أصحاب اللوحة، (هدفهم) هو أن تُعرض هذه اللوحة أمام الجمهور، لأنهم لا يريدون الاحتفاظ بها 40 أو 50 عاماً أخرى في خزائن البنك السويسري»، وتابع: «عندما تملك هذا النوع من الأعمال الفنية، يجب أن تكون من الأوصياء عليه».
وقال أيضاً: «إنها ليست مسألة أموال. وإنما مسألة صبر، مسألة شيء ينبغي فعله. إذ إن لها قيمة ليس فقط للخاصة (الأفراد) ولكن للإنسانية».
تشكيك في الدعوى
لكن مؤسسة الموناليزا شككت في توقيت الدعوى، إذ أشار أمينها العام جويل فيلدمان، في رسالة بالبريد الإلكتروني إلى شبكة CNN، إلى أن ما دفع موكّلي بروتي إلى رفع الدعوى ربما يكون الدراسات التي نُشرت مؤخراً والتي تدعم نسبة اللوحة إلى ليوناردو، أو الاهتمام الكبير الذي يحيط بالرسام في الذكرى السنوية الـ500 لوفاته.
وقال فيلدمان: «لاحظنا أن هذا الإجراء القانوني لم يُتخذ سوى الآن فقط، رغم أن اللوحة عُرضت في معارض دولية عامة خلال السنوات القليلة الماضية»، في حين أضاف محامي مؤسسته باردوتشي أن توقيت وطبيعة مزاعم بروتي «شديدا الغرابة والتناقض».
وفي الوقت نفسه، قال بروتي إن قرار تقديم طلب موكله خلال معرض فلورنسا كان مسألة اختصاص قضائي: «كانت هذه هي المرة الأولى التي تُعرض فيها اللوحة أمام الجمهور في بلد أوروبي. كان هذا هو الوقت المناسب تماماً الذي أمكننا فيه اللجوء إلى المحكمة».
النزاعات العلمية
وقد تكون محاولات التحقق من الأعمال الفنية وأنها لوحات أصلية رسمها ليوناردو صعبة ومثيرة للخلاف، مثلما تبين في لوحة «سالفاتور مندي».
وبالنظر إلى المدة التي ظلت فيها لوحة «إيزلورث موناليزا» مخزنة، فقد أتيحت الفرصة لعدد قليل من الخبراء لفحص هذا العمل الفني وتحديد ما إذا كان مُنتجه ليوناردو نفسه أم مرسَمه أم أحد تابعيه مُزوِّراً.
وتستشهد مؤسسة الموناليزا بمجموعة من الأبحاث، يعود تاريخ بعضها إلى زمن الرسامَين بلاكر وإير. وغالباً ما تتركز حججها على الاختلافات بين لوحتي إيزلورث واللوفر. إذ يرى البعض أن التركيبة الفريدة للأولى والخلفية وزاوية جلوس السيدة- بالإضافة إلى حقيقة أنها رُسمت على قماش، لا على خشب- تشير إلى أن من رسمها لم يكن يحاول إنتاج نسخة.
وخلصتورقة بحثية نشرت عام 2015في مجلة Conversion Science In Cultural Heritage إلى أن اللوحتين «عملان أصليان … رسمهما ليوناردو في فترتين مختلفتين».
وجاء في البحث: «الموضوع هو نفسه، لكن اللوحتين تختلفان اختلافاً كبيراً، ما يجعلهما عملين أصليين وليستا نسخة عن بعضهما».
«ليست نسخة»
لكن بعض كبار الباحثين لا يزالون يعتبرونها نسخة. ومارتن كيمب، الخبير في أعمال ليوناردو والأستاذ الفخري بجامعة أوكسفورد، هو أحد أبرز المنتقدين ويشكك في جدية الأبحاث حول اللوحة.
وقال في مقابلة عبر الهاتف: «لم تكن هذه اللوحة يوماً من أعمال ليوناردو. كل من كتب بجدية وموضوعية عن ليوناردو إما تجاهلها أو رفضها».
ووصف كيمب اللوحة بأنها واحدة من ضمن اللوحات التي «لم يرسمها ليوناردو» وتلقى «تجاهلاً» في هامش أبحاث تاريخ الفن. واستشهد أيضاًبتحليل طيفيكشف عن تراكيب تحت الرسمة، يرى كيمب أنها «تختلف تماماً عن طريقة ليوناردو».
وقال: «نرى الكثير من لوحات الموناليزا… ويمكنني تصنيف هذه اللوحة بأنها متوسطة. فهي ليست سيئة، لكنها أيضاً ليست مقنعة بدرجة كبيرة».