banner
مقالات مختارة
banner

كتب الدكتور سمير محمد ايوب في حضرة القهوة، تواضعوا ! المرأة وفلسفة القهوة...

{clean_title}
جهينة نيوز -
كنتُ هناك، على حواف حرشٍ من أشجار الصنوبر البرية الباسقة، منتصبة بمحاذاة يمين الشارع الموصل بين عمان والسلط ، بالقرب من الجامعة الأهلية، أنتظرها وأنا مُمتلئ بملامحها، أتلهى بالتدقيق بعتمِ الليل، مُنصتا بمتعة لصرير صراصير الليل، وضجيج سيلٍ لا ينقطع من السيارالعابرة. كنت كلما طال انتظاري، تنتفتح خزائن ذاكرتي وتنثال أكثر، ويتشظى إيماني بكثيرٍلا ينتهي من القضايا المتوالدة وتلك المتشظية.
وفجأة، إمتلأ الأفق بنور يُخالطه عطرٌ الجوري الدمشقي، أقبلت بوجه لا يشبه أحدٌ، لغتة لا تُترجم، وعيناه لا تفصحان كثيرا، بل يؤول ما بهما بالكثيرمن القصص. أقبلت فتغيرالكثير في دفء المكان وشكل الوقت، صارا أكثر إبهاجا وترقبا.
أقبلت وهي تقول: أليوم، قبل أن أجيؤك، إختلطت كثير من أحاسيسي بمذاق قهوتي المعتادة، كان يسمو بي تارة إلى عَنان السماء معانقا، وتارةً يأخذني إلى مشارف الجنون. وبين هذا وذاك، كانت تتأرجح تضاريس ومفردات حياتي، التي تمضي حثيثا نحو مجهولٍ، بِتُّ أخشاه بل أخافه.
حدَّقتُ مُطولا في قيعان فنجالي، الذي كنت أحتضنه بقسوة بين كفيَّ، أسأله تأويلا، فأشكل الامرعليّ َواستحكم. فوجدت نفسي أسير إليك.

مُتعمدا، واصلت صمتي المحايد، حتى أكملت وهي تقول: قل لي يا شيخي، إن كنت مخطئة، فأنا أثق بك وبكل ما تقول. وأنت منذ سنين طوال، صاحب باع وبال مع القهوة، حكايات، روايات، اجتهادات ورؤى.
إعتدلتُ في جلستي مُرحبا، وسألتها وأنا أحدق بحياء في عينيها، عمّا يشغل بالها ويقلقها بالتحديد.
فقالت بجدية زائدة: مع البدايات المبكرة لهذا المساء، صحوت من قيلولة ممتدة من بعد صلاة الجمعه، ومع اول فنجال من قهوتي، حاولت محاكمة ذائقتي مع القهوة، وجدت نفسي أقيم وحيدة تائهة، في تلك المسافة الضيقة، بين الفهم والمتعة المفتوحة على كمشة احتمالات متضاربة ومحيرة.
فسارعت ضاحكا اقول: يبدو أنك ما كنت تمارسين التذوق، بقدر ما كنت تمارسين التقييم على الأغلب.
قالت بنبرة مثقلة بالاحتجاج الناعم: حين لا يوافق مذاق قهوتي مزاجي أو تصوري له، إعتدت أن أسارع إلى نفيه من ساحة الامتاع، والنيل منه ومن صانعه، باسم حقوق المتعة. دعني اسالك يا شيخي: كيف أنتقد دون أن أسقط في الشخصنة الضيقه؟ دون أن يتحول ذوقي إلى مرآة لميولي أو لمزاجي؟!
قلت بتمهل وشيء من الجدية: لعل المشكلة تكمن في أنك لا زلتِ تخلطين بين الذوق والمعرفة، بين الانفعال والتحليل. تقرئين القهوة كما لو أنك تقرئين نفسك. والحق، هو أن تقرئي نفسك من خلال قراءتك لقهوتك.
يمكنني أن أتذكر الآن، أنني قد قلت لك ذات مرة: أن تذوق القهوة لا يتجلى، إلا إذا استطعنا عند تذوقه، الفصل بامتياز، بين ما لا نحب وما هو عظيم، بين ذائقتنا المحدودة، والقيمة التي نجح صانع الفنجالعبرها، من تجاوز أذواقنا الفردية. وتابعت وانا احدق في العتم بعيدا عن عينيها:
تواضعي أمام عظمة القهوة يا سيدتي، فإن تذوقها كما أفهمه، ليس بشحذ العقول لإطلاق الأحكام عليها، بل فهمها أولًا، وفهم لماذا تبدو لنا كذلك. إنه تمرين على تجاوز الأنا المستبدة، التي تريد دائمًا أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة. فحين نكفّ عن البحث في التذوق عمّا يشبهنا، ونبدأ في البحث عمّا يحررنا من ضيق الأنا، نكون قد خطونا أول خطوة نحو التذوق الحقيقي.
الاردن - 5/12/2025
  • {clean_title}
تابعو جهينة نيوز على google news
 
Email : info [at] johinanews.com
 
تصميم و تطوير