لماذا تراهن ألمانيا على سورية الجديدة؟ المصالح والرهانات الاستراتيجية

محمود أبوزيد
مع تسارع التغيرات في المشهد السوري، يبرز الاهتمام الألماني بسورية الجديدة كأحد التحولات اللافتة في السياسة الخارجية لبرلين تجاه الشرق الأوسط.
إعادة افتتاح السفارة الألمانية في دمشق، وزيارات المسؤولين الألمان، والتوجه نحو شراكات اقتصادية وتنموية تعكس استراتيجية جديدة تتجاوز المقاربة التقليدية القائمة على الدعم الإنساني فقط.
لكن، لماذا هذا الاهتمام المفاجئ؟ وما الذي تريده برلين من سورية الجديدة؟ هل هي مجرد علاقات دبلوماسية أم أن هناك رهانات استراتيجية عميقة؟
⸻
العلاقات الألمانية – السورية: من البرود إلى الشراكة
1. العلاقات قبل 2011: تواصل محدود ولكن مستقر
قبل اندلاع الصراع في سورية، لم تكن العلاقات الألمانية – السورية قوية كما هو الحال مع دول أوروبية أخرى مثل فرنسا أو بريطانيا، لكنها كانت مستقرة إلى حد ما.
•زارت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل دمشق في 2007، والتقت بالرئيس بشار الأسد، في محاولة لتعزيز الحوار الأوروبي مع سورية.
•العلاقات الاقتصادية كانت محدودة، لكنها شملت بعض الاستثمارات في قطاعات الطاقة والصناعة، كما كان هناك تعاون أكاديمي بين الجامعات الألمانية والسورية.
2. العلاقات خلال الأزمة السورية (2011-2023): القطيعة والعقوبات
مع اندلاع الصراع السوري عام 2011، قادت ألمانيا سياسة أوروبية صارمة ضد النظام السوري:
•فرضت عقوبات اقتصادية واسعة شملت حظر تصدير التكنولوجيا والطاقة إلى سورية.
•أوقفت أي تعاون دبلوماسي، وأغلقت سفارتها في دمشق.
•استقبلت قرابة مليون لاجئ سوري بين 2015-2017، وأصبحت أكبر دولة أوروبية تستقبل السوريين.
•دعمت المعارضة السورية سياسيًا وإنسانيًا، كما دعمت مشاريع إعادة الإعمار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
3. العلاقات مع الحكومة الجديدة: انفتاح وشراكة محتملة
مع التغيرات السياسية في دمشق وتشكيل الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بدأت برلين في إعادة احياء سياستها اتجاه سورية:
•إعادة افتتاح السفارة الألمانية في دمشق، في خطوة تشير إلى الاعتراف بالحكومة الجديدة كشريك محتمل.
•زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى دمشق مرتين، حيث التقت بمسؤولين سوريين لمناقشة التعاون في ملفات إعادة الإعمار والطاقة والاستثمارات.
•اهتمام ألماني واضح بتقديم دعم اقتصادي وتنموي لسورية الجديدة، بعيدًا عن المقاربة العسكرية أو السياسية المباشرة.
•تعزيز التعاون في مجال اللاجئين، حيث تسعى برلين إلى وضع آلية تضمن عودة آمنة وطوعية لبعض السوريين الذين استقروا في ألمانيا.
⸻
لماذا تهتم ألمانيا بمستقبل سورية؟
1. الجالية السورية في ألمانيا: جسر بشري واقتصادي
يعيش في ألمانيا قرابة مليون لاجئ سوري، تعلموا لغتها، واندمجوا في مجتمعها، وساهموا في اقتصادها. هؤلاء قد يشكلون رابطًا اقتصاديًا وثقافيًا قويًا بين البلدين، مما يعزز فرص الشراكة والاستثمار في المستقبل.
2. الفرص الاقتصادية والاستثمارية
ألمانيا تنظر إلى سورية الجديدة كسوق واعدة، خاصة في القطاعات التالية:
قطاع الطاقة: الكهرباء، النفط، والغاز
•تحتاج سورية إلى إعادة تأهيل محطات توليد الكهرباء المدمرة، وهو ما يوفر فرصة لشركات مثل Siemens وRWE.
•يمكن لألمانيا المساهمة في مشاريع الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، في المناطق الصحراوية السورية.
•قد تصبح سورية ممرًا هامًا لنقل الطاقة من الخليج العربي إلى أوروبا، مما يعزز أهميتها الاستراتيجية لبرلين.
قطاع المياه وإعادة الإعمار البيئي
•تعمل GIZ (المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي) بالفعل على مشاريع البنية التحتية للمياه في سورية، ويمكن أن توسع استثماراتها في محطات تنقية المياه وتحلية المياه في الساحل السوري.
•تطوير أنظمة الري المستدام لدعم القطاع الزراعي.
القطاع الصحي: إعادة بناء النظام الطبي
•تمتلك الشركات الألمانية مثل Siemens Healthineers وB. Braun خبرة في تحديث المستشفيات وتزويدها بأحدث التقنيات.
•إمكانية إنشاء مصانع أدوية بالتعاون مع شركات ألمانية، لتقليل الاعتماد على الاستيراد.
قطاع الصناعة: تحويل سورية إلى مركز صناعي إقليمي
•قد تصبح سورية قاعدة صناعية بديلة لبعض المنتجات التي لم يعد تصنيعها في ألمانيا مجديًا اقتصاديًا، مثل الصناعات التحويلية والتجميعية.
•إمكانية تطوير مناطق صناعية متخصصة لجذب الاستثمارات الألمانية.
قطاع التكنولوجيا والتحول الرقمي
•تحديث شبكات الاتصالات وتحسين خدمات الإنترنت لتشجيع الاقتصاد الرقمي.
•دعم الشركات الناشئة في مجال البرمجيات والتجارة الإلكترونية.
قطاع النقل والبنية التحتية
•إمكانية استثمار ألمانيا في تحديث السكك الحديدية السورية، مما يسهل حركة البضائع ويعزز التجارة.
•تطوير الموانئ السورية في اللاذقية وطرطوس، لجعلها مراكز لوجستية إقليمية.
⸻
بناء نفوذ ألماني في الشرق الأوسط
على عكس فرنسا وبريطانيا، لم يكن لألمانيا حضور قوي في الشرق الأوسط، لكنها ترى في سورية الجديدة فرصة لبناء نفوذ جديد في المنطقة، خاصة في ظل التوترات الأوروبية – الروسية.
التحديات أمام التعاون الألماني – السوري
رغم الفرص الواعدة، هناك تحديات قد تعرقل هذا التعاون، أبرزها:
1.الملف الكردي (قسد): حيث تدعم ألمانيا القوات الكردية، وهو ملف حساس في المفاوضات مع دمشق، ويبدو ان تلك العقبة في طريقها الى الزوال بعد توقيع الاتفاق بين الحكومة السورية وقسد
2.الوضع في السويداء: لا تزال الأوضاع غير مستقرة في بعض المناطق، مما قد يؤثر على جذب الاستثمارات.
3.ضمان استقرار سياسي: تحتاج سورية إلى حكومة انتقالية وبرلمان فاعل لضمان استقطاب الشراكات الدولية.
سيناريوهات المستقبل: كيف ستتطور العلاقة الألمانية – السورية؟
1. سيناريو تعزيز التعاون الكامل
في هذا السيناريو، سورية الجديدة تنجح في تجاوز العقبات السياسية والأمنية، وتحقق نوعًا من الاستقرار السياسي والاجتماعي، مما يمهد الطريق لتعزيز التعاون الكامل بين ألمانيا وسورية في مختلف المجالات.
الاستقرار السياسي والاقتصادي
•الحكومة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تعمل على تشكيل حكومة انتقالية فعالة، وتنظم انتخابات حرة ونزيهة، مما يعزز الاستقرار الداخلي ويقلل من التوترات السياسية.
•إصلاحات قانونية واقتصادية تدعم بيئة الاستثمار وتوفر الحوافز للقطاع الخاص، بما في ذلك الشركات الألمانية الراغبة في الاستثمار في سورية.
•سورية تصبح نموذجًا للاستقرار الإقليمي، مما يسمح لألمانيا بتحقيق أهدافها الاقتصادية في إعادة الإعمار، إضافة إلى بناء شراكات استراتيجية في مجالات الطاقة، الصناعة، البنية التحتية، والتكنولوجيا.
التعاون الثنائي
•القطاع الاقتصادي: تتحقق اتفاقيات تجارية بين ألمانيا وسورية تشمل بناء مصانع، مشاريع للطاقة المتجددة، والمساهمة الألمانية في تأهيل قطاع المياه والطاقة.
•القطاع الصحي: التعاون بين القطاع الطبي الألماني و المؤسسات الصحية السورية يتوسع بشكل كبير، من خلال إنشاء مشاريع مشتركة في مجال تصنيع الأدوية وتحسين جودة الرعاية الصحية.
•القطاع التقني: تعزز ألمانيا دورها في التحول الرقمي في سورية عبر دعم إنشاء مراكز تقنية ومختبرات بحثية تكنولوجية.
•اللاجئون السوريون: برلين قد تواصل دعم عودة اللاجئين الطوعية بالتعاون مع الحكومة السورية، مما يقلل الضغط الاجتماعي والاقتصادي في ألمانيا.
2. سيناريو التعاون المحدود
في هذا السيناريو، رغم التحسن النسبي في العلاقات، إلا أن العقبات السياسية والاقتصادية تظل موجودة، مما يحد من قدرة سورية على جذب الاستثمارات الألمانية والقيام بتعاون واسع في مختلف المجالات.
العقبات الأمنية والسياسية
•الملف الكردي: يبقى موضوع قسد (قوات سوريا الديمقراطية) وحمايتها من الأوضاع السياسية المعقدة في سورية حجر عثرة كبير. دعم ألمانيا للقوات الكردية قد يشكل عائقًا كبيرًا في تطور العلاقات مع دمشق، خاصة في ظل التصريحات المتباينة بين الحكومة السورية وألمانيا حول هذا الملف.
•الوضع في السويداء: التوترات في منطقة السويداء بسبب النزاع العرقي والطائفي قد تشكل تهديدًا لاستقرار سورية، مما يمنع تنفيذ مشاريع تنموية كبيرة في هذه المناطق.
•إصلاحات محدودة: قد تستمر الحكومة السورية الجديدة في بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية المحدودة، لكن لن يكون هناك التزام كبير بالتغيير العميق، مما يعوق تنفيذ خطط التعاون على نطاق واسع.
التعاون المحتمل
•الاستثمار في مشاريع محدودة: قد تقتصر الاستثمارات الألمانية على بعض المشاريع المحدودة في قطاع الطاقة، مثل الطاقة المتجددة، و المياه، إضافة إلى المشاريع الإنسانية الخاصة بإعادة الإعمار في المناطق الأكثر أمانًا.
•المساعدات التنموية: ستستمر ألمانيا في تقديم المساعدات الإنسانية وبرامج التنمية عبر مؤسسات مثل GIZ، مع التركيز على التعليم، الصحة، و البنية التحتية بشكل عام.
•اللاجئون السوريون: ألمانيا قد تواصل العمل على ملف اللاجئين السوريين، لكنها ستكون حريصة على تنفيذ برنامج عودة متدرج يعتمد على الاستقرار الداخلي في سورية.
3. سيناريو فشل التقارب: العودة إلى القطيعة
في هذا السيناريو، إذا استمرت التوترات السياسية والأمنية في سورية، فإن العلاقات مع ألمانيا قد تعود إلى حالة القطيعة مرة أخرى، مما يؤدي إلى تأجيل المشاريع الاقتصادية الكبرى وتجميد أي تعاون استثماري في المدى القريب.
⸻
خاتمة
إن اهتمام ألمانيا بسورية الجديدة يعكس تحولًا مهمًا في السياسة الخارجية الألمانية تجاه منطقة الشرق الأوسط. مع التحديات والفرص التي يحملها المستقبل، تبقى سورية أمام مفترق طرق في طريقها نحو الاستقرار الاقتصادي والسياسي. ألمانيا، من خلال استثماراتها في مجالات الطاقة، الصحة، والبنية التحتية، قد تكون أحد اللاعبين الرئيسيين في إعادة إعمار سورية ودمجها في الاقتصاد الإقليمي والدولي.
مع ذلك، لا تزال هناك عقبات عديدة قد تعيق هذا التعاون، خاصة في ظل الملفات السياسية المعقدة مثل قضية الأكراد والوضع في السويداء. إلا أن التزام ألمانيا بإعادة بناء سورية يتجاوز مجرد الأهداف الاقتصادية، ليشمل تعزيز الاستقرار الإقليمي والمساهمة في إيجاد حلول طويلة الأمد لقضية اللاجئين.
في النهاية، فإن مستقبل العلاقات الألمانية – السورية يعتمد بشكل كبير على التوازن بين الاستقرار الداخلي في سورية والتزامها بالإصلاحات السياسية والاقتصادية الضرورية. إن التعاون البناء بين البلدين سيشكل خطوة أساسية نحو سورية جديدة، لا فقط في خارطتها السياسية، بل أيضًا في دورها الحيوي في استقرار المنطقة وتطورها الاقتصادي.