banner
مقالات مختارة
banner

أرض الصومال ومحور نتساريم .. علاقة محتملة كارثية

{clean_title}
جهينة نيوز -
أرض الصومال ومحور نتساريم .. علاقة محتملة كارثية
المحامية هبة أبو وردة
في عالم السياسة حيث تتحرك الأمور بدقة دوران الأجرام السماوية، لا مجال للصدفة ولا لتفكيك الأحداث عن سياقها، واليوم في ظل وجود رؤى سياسية معلقة على تهجير أهل القطاع، يصبح من الصعب قراءة أي تحركات كأحداث عفوية، إذ تُسطر خطواتها بدقة وتُنسج على وتر الحنكة الباردة والرحابة العقلانية التي تتجاوز الإنشغال بالمشاعر.
هذه الرؤى المعلقة التي اصطدمت مؤخرا بجدار عربي صلب؛ فقد جاء الرفض قاطعًا من الدول العربية على مستوى القيادات والشعوب لأي شكل من أشكال التهجير، سواء كان قسريًا أو طوعيًا؛ فمن جهة تصدّرت الأردن كخط الدفاع الأول ضد أي محاولة لشرعنة التهجير، مؤكدة أن الحل الوحيد يكمن في عودة اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار الأممي 194، وأن التوطين ليس حلاً بل قنبلة موقوتة ستنفجر في وجه الجميع، موقف واضح كالشمس لا يقبل التفاوض، شدد عليه الملك عبد الله الثاني في كل المنابر الدولية، ومن جهة أسقطت مصر سيناريو التهجير قبل أن يُولد، معتبرة أن القبول بهذا الطرح لا يعني فقط إفراغ غزة من أهلها، إنما يشكل سابقة خطيرة قد تمتد إلى أماكن أخرى في المنطقة، كما أن دول الخليج  وإن بدت بعيدة جغرافيًا عن قلب المعركة إلا أنها أدركت أن تهجير الفلسطينيين هو أكثر من أزمة إنسانية، فهو مفتاح لإعادة هندسة المنطقة؛ فالسعودية أصبحت أكثر انخراطًا في الملفات الإقليمية مؤكدة أن الحل لا يكون بترحيل الفلسطينيين إنما بوقف العدوان وإقامة دولتهم المستقلة، فيما تبنت قطر والكويت موقفًا صريحًا بأن القضية معركة وجودية تحدد شكل المنطقة لعقود قادمة.
في هذا السياق، أُجبرت القوى العظمى على فتح الأبواب لنماذج جديدة في بقاع أخرى دون اتفاق رسمي ومعلن، بحيث يُستتر الطرح خلف ستار "الحلول الإنسانية”، ليبرز إعلان أرض الصومال غير المعترف بها، معلنًا فتح أبوابها أمام أهل القطاع، حاملاً رسالة مزدوجة؛ رسالة تُظهر بعدًا إنسانيًا يعبّر عن اهتمام بمصير المتضررين، وفي الوقت ذاته تُقرأ كخطوة سياسية تسعى لإقامة تحالفات جديدة في منطقة القرن الإفريقي على أسس تفاهم مشترك مع بعض الجهات الإسرائيلية أو الأمريكية.
والأرجح أن هذا الإعلان هو رسالة سياسية محسوبة بدقة، مع احتمال وجود تفاهمات ضمنية تقف خلفه؛ إذ تطرح أرض الصومال نفسها، على الضفة الأخرى من البحر الأحمر وفي توقيت لا يبدو عشوائيًا للقارئ السياسي، كوجهة محتملة لاستقبال أهل القطاع، لتأخذ دورًا تكميليًا في مشروع أوسع لا يقتصر على إعادة التوطين فحسب، بل يمتد إلى إعادة هندسة النفوذ في القرن الإفريقي في ظل تزايد دور الولايات المتحدة وإسرائيل في رسم ملامح المستقبل الجيوسياسي للمنطقة.
يظهر الإعلان كأنه لوحة فنية كونية تعبّر عن استغلال مزدوج يربط بين آمال كيان يسعى لشرعيته وبين حسابات قوى عظمى تعيد رسم معادلات النفوذ، فمن جهة تسعى أرض الصومال غير المعترف بها منذ عقود، كنازلة تحاول إعادة اكتشاف هويتها في محيط من الغموض، إلى الحصول على اعتراف دولي وتحقيق مكانة تعكس حجم طموحاتها، مستغلة الفرصة لتأمين شرعيتها وجني الفوائد الاقتصادية التي تُضيء درب المستقبل؛ فتلك الأرض الواقعة على خليج عدن تُعدّ بوابة ساحرة تربط بين حضارتين، مما يمنحها أهمية استراتيجية تجعلها محورًا لإعادة ترتيب موازين القوة في القرن الإفريقي.
ومن جهة أخرى، تُستغل المبادرة من قبل القوى العظمى كأداة لتحقيق مصالحها؛ إذ تُقدّم أرض الصومال كجسر نحو الشرعية الدولية مقابل منحها مزايا اقتصادية وعسكرية، وذلك في إطار دعم مشاريع إقليمية كالممر المائي في غزة، الذي يتعدى كونه مشروعًا اقتصاديًا ليصبح ورقة في معركة جيوسياسية تُعيد توزيع النفوذ من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي، مع إضعاف النفوذ المصري عبر خلق منافذ بديلة لقناة السويس، وفي الوقت هي فرصة لإعادة تشكيل السيطرة السياسية والاقتصادية عبر إعادة توطين بعض السكان وخلق حقائق ميدانية جديدة تُضعف المطالبات بحق العودة، إلى جانب تهجير الفلسطينيين إلى بقاع مشتتة من الأرض.
فالتاريخ السياسي لا يخفي توجهات القوى الكبرى لدعم كيانات غير معترف بها رسميًا بما يخدم أجندتها، وأمريكا لها سوابق في هذا السياق، الولايات المتحدة سبق أن دعمت دولًا غير معترف بها مثل تايوان، حيث تقدم لها مساعدات اقتصادية وعسكرية دون اعتراف رسمي، في حالات أخرى، ساندت كيانات انفصالية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، كما حدث مع كوسوفو التي حصلت على دعم أمريكي قوي قبل الاعتراف الدولي بها، اتفاقيات سرية بشأن إعادة توطين اللاجئين ليست جديدة، وقد لعبت واشنطن دورًا في عمليات مشابهة، مثل إعادة توطين اللاجئين الفيتناميين بعد الحرب أو اللاجئين السوريين في دول معينة ضمن اتفاقيات خاصة؛ فالحسابات تُدار كما تُدار معارك الفلك في مدارها الثابت…
وفي خضم هذه التحركات، يبرز توسع محور نتساريم داخل غزة كخطوة استراتيجية لإعادة تشكيل السيطرة السياسية والاقتصادية؛ إذ يُتوهم بأن الحسابات قد تُعيد توزيع السكان وخلق حقائق ميدانية جديدة تُضعف المطالبات بحق العودة، وكأن التاريخ يُصبح مرآة تتنبأ بمستقبل تتفتت فيه الهوية الوطنية، وتتحول غزة إلى جزر معزولة تحت رحمة تحالفات جديدة لا تترك مجالًا للصدفة، تماما كما حصل في "البانتوستان”، مما يجعل فكرة تهجير أو إعادة توطين الفلسطينيين مسألة زمنية محتومة.
من يقرأ السياسة بتمعّن يدرك أننا أمام رواية معقّدة تُنسج بخيوط من الحنكة الباردة والذكاء المدروس، حيث تُستغل الأدوات الناعمة والخشنة في آنٍ واحد لإعادة رسم الخرائط؛ ليست مجرد حدود جغرافية، بل حدود النفوذ والهوية، وهنا تكمن فلسفة السياسة الحديثة في أن كل خطوة محسوبة لا ترحم الانحراف، وتتجلى اللعبة الجيوسياسية المعقدة في إعادة توزيع القوى على أسس من الحساب البارد والمنطق المدروس، في معركة لا يرحم فيها الزمن ولا يغفل شبح الماضي.
اليوم، إذا كان محور نتساريم الذي يمتد 8 كيلومترات جنوب القطاع وبمساحة إجمالية تبلغ 56 كيلومترًا مربعًا على الورق سيمزّق غزة داخليًا، فإن الحديث عن أرض الصومال كملاذ محتمل يعكس البعد الآخر من المعادلة، بطريقة تحوّل القضية الفلسطينية من صراع سياسي إلى أزمة لجوء، ومن قضية تحرر وطني إلى مسألة إغاثة إنسانية تخضع لاعتبارات المانحين.
هذه القراءة المحتملة وإن بدت للوهلة الأولى غير مترابطة، إلا أنها تكشف عن تحرك جيوسياسي دقيق، وتُشير إلى واقع مُرٍ تُعيد فيه القوى الكبرى توزيع النفوذ بإستراتيجيات متقنة؛ فبينما يبدو إعلان أرض الصومال مجرد بادرة معزولة، إلا أن توقيته وطبيعته وخصوصا في ظل أن هذه الأرض من الصومال ليست في وضع يسمح لها بتنفيذ خطوة كبيرة كهذه بمفردها، مما يشيران إلى نية استغلاله لاحقًا ضمن خطة دولية أوسع وقد يتحول هذا الإعلان إلى أداة لضغط مستمر يتمثل في استمرار القصف والتضييق الاقتصادي، بهدف دفع الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع طوعًا، مما يُضعف الهوية الوطنية ويُعيد تشكيل المشهد السياسي.
في ظل هذه المعادلة، يصبح من الضروري أن يتخذ المجتمع الدولي والدول العربية مواقف حازمة وواعية، لضمان بقاء القضية الفلسطينية في مصاف الأولويات ومنعها من أن تتحول إلى ورقة تُعاد بها صياغة مستقبل المنطقة وفق حسابات باردة تُخفي وراءها مصالح إعادة توزيع القوى، إذ لا يُمكن أن نسمح بأن يصبح التهجير تدريجيًا أداة في لعبة جيوسياسية تُمحى فيها ذاكرة شعب بأكمله.
 
تابعو جهينة نيوز على google news
 
Email : info [at] johinanews.com
 
تصميم و تطوير