استبعاد الإنفاق الحكومي الأمريكي من الناتج.. بداية الازدهار أم حافة الانهيار

مخامرة: القرار سيؤدي إلى نمو القطاعات ذات الربحية العالية وسيجذب استثمارات أجنبية
عايش: استبعاد الإنفاق الحكومي سيخلق شكلًا مُشوهًا للاقتصاد الأمريكي
الأنباط - مي الكردي
تتواصل مساعي إدارة ترامب في العمق الاقتصادي الأمريكي بما يعزز مصلحة القطاع الخاص، الذي يشمل المستثمرين والشركات التي تُعد حليفهُ الأقوى في فترة ولايته الحالية، حيثُ رصدت الإدارة الحالية بعض الهشاشة في الاقتصاد الأمريكي، ما أفضى إلى طرح قرار "استبعاد الإنفاق الحكومي من قياس الناتج المحلي الإجمالي"، الذي يعني تقليص دور الحكومة الأمريكية في الاقتصاد الأمريكي.
ويبحث القرار اليوم استقلالية الاقتصاد الأمريكي بالإمعان في الخصخصة، وتمكين الرؤية التي تفضي إلى درّ عوائد مالية ضخمة من قطاعات كُبرى مثل الطاقة والتكنولوجيا ما قد يؤدي إلى رفعة حقيقية في بنية الاقتصاد الأمريكي وجذب الاستثمارات، يُضاربُ ذلك خلق واقعًا اقتصاديًا مُتفاوت في الطبقات والأرباح ما يعني أن تبقى السيادة الاقتصادية بيد أصحاب كبرى الشركات والمستثمرين.
وأوضح الخبير الاقتصادي حسام عايش، أن توجه استبعاد الإنفاق الحكومي من قياس الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يعني أن ترامب والإدارة الأمريكية الحالية تسعى إلى تعديل الطريقة أو الآلية التي يتم بها حساب الناتج المحلي الإجمالي دون أن تشمل الإنفاق الحكومي المباشر (الإنفاق على الخدمات العامة والرواتب الحكومية).
وذكر تصريح وزير المالية الأمريكي عن الوظائف التي أوجدها الاقتصاد الأمريكي والنمو الاقتصادي في عهد الرئيس السابق "جو بايدن" بأنه نموًا هشًا، حيث كانت معظم الوظائف في القطاع الحكومي، ما يعني أنها لا تُعبر عن حالة الاقتصاد الحقيقية، مُبينًا الحل هو خصخصة الحكومة لصالح القطاع الخاص وذلك باعتبار أن مقاييسه وأداؤه يُعبر عن الأداء والنمو الاقتصادي في النهاية.
وأشار عايش إلى أن الإنفاق الحكومي يتم تنظيمه بالعادة في حساب الناتج المحلي الإجمالي لأن الحكومة تعتبر جزء من الاقتصاد وتساهم في النمو الاقتصادي سواء من خلال الخدمات العامة أو النفقات على البنية التحتية والمشاريع الكبرى أو الرواتب، موضحًا أن هدف الاستبعاد قد يكون شكلًا من الاستقلالية الاقتصادية، بحيث لا يكون الأداء الاقتصادي محكومًا بالإنفاق الحكومي ما يعطي مقياسًا للاقتصاد يتم التركيز به على النشاط الذي يكون به القطاع الخاص.
وبين أن النمو في هذه الحالة يعكس بشكل أفضل الاقتصاد الحقيقي بعيدًا عن التأثير الحكومي المباشر، كما أن التركيز على استبعاد الإنفاق الحكومي يعطي إمكانيات أكبر للرقابة والشفافية للنزاهة ما يعني أن تكون الحكومة أكثر قدرة على تطبيق هذه المعايير في الاقتصاد، لافتًا إلى أن ذلك يسمح بفهم أكبر دقة لدور القطاع الخاص في العملية الاقتصادية والدور الكبير الذي كانت تلعبه الحكومة سابقًا بعد القيام بهذا الإجراء.
ولفت عايش إلى أن الحكومة الأمريكية هي التي تكبر أو تصغر أو تؤثر على النمو الاقتصادي، حيث يفترض بهذا الإجراء أن يتم استبعاد التأثير الحكومي، موضحًا أن الاستبعاد قد يكون هدفه تسليط الضوء على النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص في وقت تكون به الحكومة أكثر تركيزًا على السياسات التي تحفز نمو القطاع الخاص بدلًا من الاعتماد على الإنفاق العام.
وشدد على أن هذا الإجراء سيعزز من التركيز على السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية التي تدعم الإنتاجية والابتكار في القطاع الخاص بدلًا من الاعتماد على الاستثمارات الحكومية المباشرة، مُشيرًا إلى تأثر النمو الاقتصادي بشكل أكبر، وإلى احتمالية خلق شكل مشوه للاقتصاد نتيجة استبعاد الإنفاق الحكومي في حال كان يعتمد بنموه وأداؤه على الخدمات الحكومية، إضافة إلى أنه قد يعكس "صورة وردية" عن قوة القطاع الخاص بينما يُغفل الدور الحيوي للحكومة في الاقتصاد.
وتابع عايش أن التحول أفضى إلى انتقادات لهذه الأفكار، حيثُ يرى المعارضين أن الإنفاق الحكومي يؤدي الكثير من الخدمات الاقتصادية والخدمية والاجتماعية ويجب أن تبقى جزءًا من الحسابات الاقتصادية لأنها تشكل مع القطاع الخاص أساس العملية الاقتصادية بنتائجها الاجتماعية.
وبين أن ترامب يحاول تحطيم المؤسسة الحاكمة لواشنطن بقواها المختلفة والدولة العميقة لها، حيث يرى ترامب أن التركيز على القطاع الخاص هو ما يوفر الإمكانيات لأداء اقتصادي أكبر ويجب على الحكومة أن تلعب دورًا في إسناده ودعمه وتوفير كل ما يحتاجه للقيام بالأعمال، لافتًا إلى أن الحكومة بهذا الدور تُيسر للقطاع الخاص عمله دون المشاركة في العملية الاقتصادية أو الخدمية.
وأكد أن هذه التوجهات الاقتصادية هي امعان في الخصخصة، حيث كانت تقوم الخصخصة الأولى على تقليص دور الحكومة في الاقتصاد في الحكومات السابقة، أما الحالية لـِ ترامب تقوم على استبعاد الحكومة كاملة عن القيام بأي نشاط حتى خدمية أو اقتصادية، ما يعد محاولة لوقف والحد من دور الحكومة في العملية الاقتصادية بشكل كامل.
وأشار عايش إلى أن هذا التوجه بالحد من الدور الحكومي في العملية الاقتصادية سيكون له آثار مختلفة، لا سيما أن الدول ليست جميعها مطورة بنفس كيفية الولايات المتحدة ولأن هنالك دول تنتهج التخطيط المركزي وأفكار اقتصادية مختلفة عن الأفكار الرأسمالية الجامحة جدًا في الولايات المتحدة والأكثر جموحًا عند ترامب، مُبينًا أن دول كثيرة تعتمد على اقتصاد رأسمالي أكثر انضباطًا وتعتمد على سياسات الحماية الاجتماعية ودور الحكومة في القيام بالمشاريع الكبرى وذلك لضعف قطاع الاقتصاد فيها.
وشدد على أن التوجهات الأمريكية الجديدة ستؤثر على الشراكة بين القطاعين العام والخاص بالنسبة لـ أمريكا، حيثُ يعني ذلك لن يكون هناك شراكة، بل قطاع خاص فقط، وأن ترامب هو صاحب الكلمة الأولى والنهائية في الأداء الاقتصادي.
من جهة أخرى، يرى الخبير الاقتصادي، الدكتور وجدي مخامرة، أن الهدف من استبعاد الإنفاق الحكومي من قياس الناتج المحلي الإجمالي، هو تغيير طريقة قياس الاقتصاد، لـِ تسليط الضوء على دور القطاع الخاص، مما يعكس رؤية إيديولوجية تؤكد على أن النمو الحقيقي يأتي من الأنشطة التجارية والأفراد، وليس من الحكومة، لافتًا إلى أن الدافع قد يكون سياسيًا، بهدف تعزيز سردية تقليل الاعتماد على الحكومة وتشجيع الخصخصة.
وبين أن هذا التغيير قد يشوه المقارنات الدولية (حيث يشمل الناتج المحلي العالمي الإنفاق الحكومي) ويُهمل دور الحكومة في مجالات مثل البنية التحتية والصحة والتعليم، مُفسرًا ذلك محاولة لتقليل الظاهر الإحصائي لحجم الحكومة في الاقتصاد.
ولفت مخامرة إلى الأسباب المتوقعة لهذا القرار، مثل "الأيديولوجية نيو ليبرالية" أي الايمان بأن القطاع الخاص أكثر كفاءةً وابتكارًا، وتحفز الاستثمار عبر خفض الضرائب وتقليل التنظيمات، إضافة لتقليل العجز الحكومي عن طريق خفض الإنفاق العام، خاصة في البرامج الاجتماعية.
وأشار مخامرة إلى المخاطر التي تشمل هذا القرار، حيثُ سيؤدي ذلك إلى تفاقم عدم المساواة، وإضعاف شبكة الأمان الاجتماعي، وتقليص الاستثمار في مشاريع طويلة الأجل (كالبحث العلمي) التي لا تجذب القطاع الخاص.
بالمقابل يرى أن هذا القرار قد يحمل إيجابيات مثل زيادة الاستثمارات وخلق فرص عمل في قطاعات مثل التكنولوجيا والطاقة، ما يعزز بدوره الابتكار بسبب المنافسة، في حين قد يؤدي ذلك إلى تركيز النمو في قطاعات محددة كالخدمات المالية دون أخرى أساسية كالصحة وهو ما يُعد أمرًا سلبيًا، إضافة إلى فقدان ضمان استثمار أرباح الشركات في الاقتصاد المحلي مثل عمليات إعادة شراء الأسهم.
واستعرض مخامرة خلال حديثه، التجارب السابقة لـِ سياسات ريغان وترامب الضريبية التي أدت إلى نمو قصير الأمد، لكنها زادت العجز والفوارق الطبقية، لافتًا إلى أن هذا القرار سيؤدي إلى نمو القطاعات ذات الربحية العالية بشكل أسرع، وسيجذب استثمارات أجنبية بسبب البيئة التنظيمية المرنة.
وأوضح أن لتلك السياسة تبعات سلبية من شأنها أن تؤدي تآكل الخدمات العامة وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والتعليم، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات خلال الركود أي "بدون إنفاق حكومي تعويضي"، مُضيفًا احتمالية تزايد الاحتجاجات بسبب تهميش الفئات الضعيفة، كما حدث مع حركات مثل "احتلوا وول ستريت".
واختتم مخامرة حديثه، بأن القرار قد يُحفز نموًا قصير الأمد، لكنه ينطوي على مخاطر كبيرة على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي طويلًا، حيثُ أن نجاحه يعتمد على قدرة القطاع الخاص على تعويض الفراغ في الخدمات العامة، وضمان إعادة استثمار الأرباح في الاقتصاد المحلي "بدلًا من التراكم المالي"، إضافة إلى أهمية وجود سياسات موازية لحماية الفئات الهشة