banner
مقالات مختارة
banner

الجندر والهوية في المجتمعات الرأسمالية

{clean_title}
جهينة نيوز -
فارس قاقيش
نيويورك

الرأسمالية كنظام اقتصادي لا تحكمه المبادئ الأخلاقية، بل تحكمه آليات السوق التي تحددها الرغبة والطلب والعائدات المالية. هذه الطبيعة البراغماتية للرأسمالية وفلسفتها البراغماتية التي نشرها وليم جيمس وجون ديني وغيرهما  تجعلها قادرة على استغلال أي جانب من مناحي الحياة لتحقيق الأرباح، سواء من خلال تسليع الرغبة الجنسية عبر الصناعة الإباحية، أو من خلال تبني خطاب محافظ تماما، كالمواقف المتدينة، وفقًا لما يخدم مصلحتها في لحظة معينة. هذه الازدواجية ليست مجرد تناقض سطحي، بل هي جزء أساسي من طريقة عمل الرأسمالية، حيث يتم تأجيج الرغبات والاستفادة من تداعياتها لاحقًا.

الإباحية، بصفتها صناعة تجارية ضخمة، ليست مجرد وسيلة لإشباع الرغبات، بل هي قوة ثقافية تعيد تشكيل التصورات حول الجندر والهوية. إن سهولة الوصول إلى هذا النوع من المحتوى وتمدده في الثقافة العامة قد يؤدي إلى تداخل بين الخيال والواقع، مما ينعكس على الطريقة التي يدرك بها الأفراد أنفسهم والآخرين. فحينما يُعاد تشكيل المخيلة الجمعية عبر محتوى مصمم لغرض الربح، تصبح مفاهيم الجندر والعلاقات وحتى الهويات الشخصية معرضة للتشويه أو لإعادة الصياغة وفقًا لما يخدم تلك الصناعة. وهذا يفسر كيف يمكن أن تؤدي الإباحية إلى تكريس أنماط معينة من التفاعل الاجتماعي، حيث يتم ترسيخ أدوار جندرية نمطية، أو في بعض الأحيان، خلق تصورات غير واقعية عن العلاقات البشرية تقويم بتمزيق النسيج المجتمعي الاخلاقي المترابط.

لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن الرأسمالية، في الوقت نفسه الذي تعزز فيه الإباحية، تجد مصلحتها أيضًا في دعم الخطابات المحافظة التي تدعو إلى ضبط هذه التحولات الثقافية والعودة الى الدين. فالشركات والمؤسسات الكبرى تتبنى استراتيجيات تسويقية متباينة بحسب السوق الذي تخدمه؛ ففي بعض المناطق تُظهر دعمها لمجتمع الفوضى الجندرية، بينما في أماكن أخرى تموّل حملات سياسية محافظة تعارض هذا الاتجاه. هذا ليس تناقضًا بالمعنى التقليدي، بل هو نهج عملي يعكس المرونة الرأسمالية في استغلال أي قضية، سواء من خلال تعزيز التغيير أو مقاومته، طالما أن كلا الاتجاهين مربحان.

إذن، هل هذا النمط من التلاعب متعمد أم مجرد نتيجة طبيعية لنظام يعتمد على الاستهلاك؟

 يمكن القول إنه مزيج من الاثنين؛ فالرأسمالية لا تخطط بشكل واعٍ لإنتاج تناقضات اجتماعية، لكنها تخلق الظروف التي تؤدي إلى هذه التناقضات، ثم تستفيد منها لاحقًا عبر توجيه الاستهلاك والسياسات العامة وفقًا لمصالحها. وفي هذا السياق، يصبح السؤال الأهم: كيف يمكن للأفراد مقاومة هذا التأثير أو التحرر منه؟

التحرر من هذا النمط لا يعني بالضرورة رفض الرأسمالية بالكامل، بل يتطلب تطوير وعي نقدي قادر على فك شفرة الآليات التي تتحكم في تشكيل الرغبات والمواقف الاجتماعية. فبدلًا من أن يكون الأفراد مجرد مستهلكين سلبيين يتأثرون بما يُعرض عليهم، يمكنهم إعادة تقييم تصوراتهم حول الجندر والعلاقات الاجتماعية، والتساؤل عن مدى تأثرها بالقوى الاقتصادية التي تسعى إلى تسليع كل شيء. هذه المقاومة تبدأ بإدراك أن الرغبات ليست بالضرورة طبيعية أو تلقائية، بل يتم تشكيلها وصياغتها عبر ثقافة استهلاكية تعمل لصالح مصالح تجارية محددة. وفي نهاية المطاف، يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق نوع من التوازن بين الاستقلال الفكري والقدرة على التعامل مع واقع اقتصادي لا يمكن تجاوزه بسهولة. ولكن يظل التساؤل: هل لدينا الهامش الكافي للتغيير في مجتمع تسيطر عليه وسائل الإعلام الراسمالي الموجه سيطرة تامة؟
تابعو جهينة نيوز على google news
 
Email : info [at] johinanews.com
 
تصميم و تطوير