الملك عبدالله الثاني وتوكاييف يُجددا تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الأردن وكازاخستان

بقلم: المستشار محمد الملكاوي
حلّق النسران؛ النسر الملكي الأردني والنسر الذهبي الكازاخستاني، بفخر وسموٍ في علياء سماء الأردن هذه الأيام، وذلك خلال الزيارة التي قام بها فخامة رئيس جمهورية كازاخستان قاسم جومارت توكاييف إلى الأردن ولقائه جلالة الملك عبدالله الثاني، بحضور ولي العهد سمو الأمير الحُسين بن عبدالله الثاني.
وقد استمتع النسر الذهبي الكازاخستاني بإطلالة رائعة من الفضاء الواسع على معالم الأردن وفخامتها، حيث تراءى لهذا النسر الذهبي (القادم من آسيا الوسطى)، في الآفاق ما بين الشفق والغسق مدينة "البتراء" الوردية التاريخية، التي تُشِعُّ ألقاً على أرض الأنباط (أجداد الأردنيون الأوائل)، ووادي "رم" الساحر، الذي يُعرف بوادي القمر، والبحر الميّت الذي يقع في أخفض بقعة في العالم، ومغطس السيد المسيح عليه السلام، الذي يحج إليه مسيحيو العالم سنوياً، وآثار الرومان في جرش وعمّان وأمّ قيسٍ وأمّ الجمال وغيرها، وخارطة الفسيفساء في مادبا، وجبل نيبو، فيما هوى هذا النسر الكازاخستاني الذهبي بوقارٍ وفخامة إلى قلعتي الكرك وعجلون ليستذكر انتصار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (الذي ينحدر بأصوله من قبيلة كازاخستانية) في معركة عين جالوت على المغول، وتحرير المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في مدينة القدس، عام 1260 ميلادي / 658 هجري، وقتل قائد جيش المغول كتبغا في تلك المعركة، بعدما عاث المغول بقيادة "هولاكو" قتلاً وتدميراً في العراق وسوريا.
وفي ذات الوقت الذي كان يستمتع فيه النسر الذهبي الكازاخستاني الإطلالة على مرتفعات مدينة القدس (مدينة السلام) من سماء العاصمة عمّان، كانت تتراءى للنسر الملكي الأردني الذي يُحلّق عالياً من على الآفاق البعيدة التي تُطلُّ على سماء كازاخستان، ليرى بعينيه الأردنيتين الثاقبتين برج "بايتريك" في العاصمة الكازاخستانية "أستانا"، الذي يُمثل النهضة الكازاخستانية، وكذلك مسجد "حضرة السلطان" في العاصمة "أستانا"، والذي يُعتبر أكبر مساجد كازاخستان وأكبر مساجد دول آسيا الوسطى، والذي يتميّز بتصميمه الفخم وقِبابه الرائعة. فيما حلّق النسر الملكي الأردني أيضاً فوق ضريح المتصوَّف خوجة أحمد يسوي، وبحيرات لآلئ "كولساي"، وهي لآلئ جبال تيان شيان، وأيضاً المرصد الفلكي في "ألماتي"، ومضمار التزلّج العالمي في "ميديو"، علاوة على التحليق فوق وادي "تشارين" الذي يؤمه محبو المغامرة والمصوّرون من شتى بلاد العالم.
لهذا وأنا ألامس وأستذكر كل هذا التاريخ والحضارة الأردنية والكازاخستانية، فإني على يقين بأن لقاء جلالة الملك عبدالله الثاني مع ضيفه أخية فخامة رئيس جمهورية كازخاستان قاسم جومارات توكاييف يُعتبر لقاءً فريداً ومتميّزاً، حيث حرص جلالة الملك على لقاء ضيفه بعد يومٍ واحدٍ من العملية الجراحية التي أجراها، وهذا تأكيد ملكي على أن العلاقات (الأردنية – الكازاخستانية) هي علاقات أخوية قوية وعميقة، وتنبثق من إرث حضاري عريق بين البلدين الشقيقين، وتتكئ أيضاً على قواسم مُشتركة تقوم على الاستفادة من خصوصية وميزة كل دولة، بهدف تعظيم هذا التعاون الاستراتيجية.
وبصفتي رئيساً لوِحدِة ثقافة السلام في الشرق الأوسط التي تمثل العديد من مؤسسات المجتمع المدني فإن الأردن وكازاخستان هما دولتا سلام، الأردن في منطقة الشرق الأوسط، وكازاخستان في وسط آسيا، وكُلٌّ منهما لديها سنواتٍ طويلة من العمل على ترسيخ السلام والأمن والاستقرار والتسامح والتعايش، ولعل "رسالة عمّان" التي تهدف إلى ترسيخ الوسطية والاعتدال ورفض الغلو والتطرّف والإرهاب، توازي في المقابل جهود كازاخستان (التي تضم ما يزيد على 130 إثنية وطائفة عِرقية) في تعظيم التسامح العالمي على أرض كااخستان، والتي يُعبّر عنها دائما "مؤتمر قادة الأديان" العالمي، الذي يُعقد مرّة كل ثلاث سنوات، هذا إلى جانب أن كازاخستان تُعتبر الحضن الدافئ الآمن في وسط آسيا، مثلما هو الأردن الحُضن الدافئ الآمن في منطقة الشرق الأوسط، وحرص الدولتين على تأكيد أهمية الحوار والمفاوضات لمعالجة كل القضايا والخلافات بين الدول.
أما على صعيد التعاون في مختلف المجالات بين البلدين، فقد حظيت زيارة فخامة الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف باهتمام عالي المستوى بتوجيهات جلالة الملك عبدالله الثاني، لتعزيز التعاون في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاستثمارية، وبما يخدم المصالح المشتركة ويفتح آفاقاً جديدة للتنمية المستدامة بين البلدين، حيث تُعَدّ هذه الزيارة الرئاسية المهمّة للأردن فرصة تاريخية لتطوير الشراكات الاستراتيجية، والاستفادة من خِبرات البلدين في العديد من القطاعات المهمة، على النحو التالي:
•الاستثمار هو بوابة نحو التنمية المستدامة:
يُعد الأردن وكازاخستان وجهتين استثماريتين واعدتين على المستويين الإقليمي والعالمي، حيث يتمتع الأردن بموقع استراتيجي يربط آسيا بأفريقيا وأوروبا، فيما تُعد كازاخستان أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى بفضل مواردها الطبيعية الهائلة، ويمكن للأردن الاستفادة من الاستثمارات الكازاخستانية في مشروعات البنية التحتية والطاقة، بينما يُمكن لكازاخستان أن تستفيد من التجربة الأردنية في استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في القطاعات الخدمية والصناعات الدوائية والسياحة العلاجية.
• الطاقة النووية نحو مُستقبل مستدام:
وفي هذا المجال يُمكنني القول بأن كازاخستان تُعتبر واحدة من الدول الرائدة في العالم في إنتاج اليورانيوم وتطوير الطاقة النووية، بينما يسعى الأردن إلى تعزيز قدراته في مجال الطاقة النووية كخيار استراتيجي لتلبية احتياجاته المستقبلية من الطاقة، لهذا يُمكن للأردن الاستفادة من الخبرات الكازاخستانية في بناء المفاعلات النووية الصغيرة والمتوسطة، في حين يُمكن لكازاخستان الاستفادة من الموقع الجغرافي للأردن لتوسيع تصدير تقنياتها النووية إلى دول منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
•تعدين اليورانيوم والتعاون في الموارد الطبيعية:
كما يُمكنني القول في هذا المجال بأن كازاخستان تمتلك واحدة من أكبر احتياطيات اليورانيوم في العالم، مما يجعلها شريكاً محتملاً للأردن في تطوير مشاريع التعدين، ويمكن للأردن الاستفادة من الخبرة الكازاخستانية في استخراج اليورانيوم في الأردن وتصنيعه، خاصة مع وجود احتياطات واعدة لليورانيوم في المملكة، ومن جهة أخرى يمكن لكازاخستان الاستفادة من موقع الأردن الاستراتيجي كمركز لوجستي لتوزيع منتجاتها النووية في المنطقة.
•النمو الاقتصادي وتعزيز الشراكات التجارية:
وفي هذا الصدد يجب الإشارة إلى أن كلا البلدين يتمتعان باقتصاديات نامية تسعى إلى تعزيز الاستثمارات وتنويع مصادر الدخل، لهذا يستطيع الأردن الاستفادة من تجربة كازاخستان في جذب الاستثمارات الكبرى إلى قطاعات مهّمة مثل التعدين والصناعات الثقيلة، بينما يُمكن لكازاخستان الاستفادة من خبرات الأردن في تطوير القطاعات الخدمية، مثل السياحة والبنوك، وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين.
• الثقافة هي الجسر بين الشرق والغرب:
وأعتقد بان الثقافة قد تكون جسراً قوياً بين البلدين، حيث يتميّز كل من الأردن وكازاخستان بإرث ثقافي غني يعكس التنوع الحضاري والديني والثقافي، مما يساعد في ترسيخ التعاون في مجال الثقافة من خلال تبادل الفعاليات الثقافية والفنية، وتنظيم معارض مشتركة لتعزيز الحوار الثقافي، بينما يمكن للأردن أيضاً الاستفادة من التجربة الكازاخستانية في الحفاظ على التراث الثقافي والترويج له عالمياً.
•البيئة وأهمية التعاون في حماية الموارد الطبيعية:
وتشكّل البيئة قاسماً مشتركاً قوياً بين البلدين، حيث يواجه الأردن وكازاخستان تحديات بيئية متشابهة، مثل التصحر وشح المياه، لهذا يمكن للأردن الاستفادة من تجربة كازاخستان في إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة، فيما يمكن لكازاخستان التعلّم من تجربة الأردن في إدارة الموارد المائية بكفاءة، خاصة في ظل التغيّرات المناخية المتسارعة.
• المناطق الاقتصادية والفُرص التكاملية:
ويُمكن القول أيضاً بأن المناطق الاقتصادية الخاصة في الأردن وكازاخستان تُعتبر محركات رئيسية للنمو الاقتصادي بين البلدين، وبالإمكان تعزيز التعاون من خلال إقامة شراكات بين المناطق الحرة في البلدين، بما يتيح فرصاً جديدة للاستثمار في التصنيع والتجارة والخدمات اللوجستية، وهذا سيُسهم في تعزيز التبادل التجاري وزيادة فرص العمل.
الزراعة وتعزيز الأمن الغذائي:
ومن وجهة نظري فإنه بإمكان الأردن وكازاخستان إقامة شراكة في مجال الزراعة والأمن الغذائي، وذلك بسبب التنوع الزراعي في البلدين، حيث يمتلك البلدان إمكانيات زراعية يمكن أن تكون مُكملة لبعضهما البعض، بحيث يمكن للأردن الاستفادة من الأراضي الزراعية الشاسعة في كازاخستان لإنتاج المحاصيل الاستراتيجية، بينما يمكن لكازاخستان الاستفادة من خبرات الأردن في تقنيات الزراعة الحديثة وترشيد استخدام المياه، علاوة على إمكانية الاستفادة من ميزة "الأغوار الأردنية" الدافئة شتاءً في الزراعة المُبكرة لبعض المحاصيل والمزروعات المهمّة لكازاخستان.
• الاقتصاد الرقمي والثورة التكنولوجية المشتركة:
أما الاقتصاد الرقمي في الأردن وكازاخستان فيشهد نمواً مُتزايداً، ويمكن للبلدين التعاون في تطوير البنية التحتية الرقمية، وتبادل الخبرات في مجال التحول الرقمي والتجارة الإلكترونية، مما يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي وإيجاد وتوليد فرص عمل جديدة في قطاع التكنولوجيا.
•المجال التكنولوجي (الابتكار من أجل المستقبل):
حيث يُعد قطاع التكنولوجيا من أسرع القطاعات نمواً في البلدين، ويمكن للأردن الاستفادة من خبرات كازاخستان في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية، فيما يمكن لكازاخستان الاستفادة من الكفاءات الأردنية في قطاع البرمجيات وصناعة التطبيقات الحديثة.
•التوأمة بين المدن الأردنية والكازاخستانية / واعتبار التوأمة بين العاصمتين عمّان وأستانا أنموجاً نحو شراكة حضرية مستدامة:
وفي هذا الإطار فإن تعزيز التعاون بين العاصمتين (عمّان وأستانا) مهمّ جداً، من خلال برامج عمل لتطوير التوأمة بينهما، وذلك بهدف تبادل الخبرات في التخطيط الحضري، والاستدامة البيئية، وتطوير البنية التحتية الذكية، مما يعزز التنمية المستدامة ويعود بالنفع على سكان المدينتين، وبما يكفل زيادة التوأمة بين المدن الأردنية والكازاخستانية.
كما أتمنّى أن أرى توأمة أيضاً بين مدينة البتراء الأثرية وضريح خوجة أحمد يسوي، لأن كليهما من مواقع التراث العالمي المُعتمدة من قِبل اليونسكو، ويعكسان معاً التاريخ العريق لإرث وحضارة كل من البلدين الشقيقين، وكذلك من المهم أن نرى توأمة بين البحر الميت وبحيرة كولساي، لأن كليهما وجهتين سياحيتين طبيعيتين تتميزان بمياه فريدة، وأيضاً توأمة بين وادي "رم" ووادي "تشارين" لأن كليهما يتميّزان بتشكيلات صخرية مُذهلة تجذب مُحبي المغامرة من مختلف دول العالم، مع العِلم بأن الأردن وكازاخستان تتمتعان بمعالم فريدة تعكس هويتيهما التاريخية والثقافية، مما يجعلهما وجهتين ثقافيتين وسياحيتين مميزتين على مستوى العالم، فيما يمكن لكازاخستان أن تستفيد من السياحة العلاجية الأردنية في البحر الميّت والمياه المعدنية في بعض مناطق المملكة.
لهذا أرى بأن الأردن وكازاخستان يتمتعان بعلاقات استراتيجية قائمة على العلاقات الأخوية، والمصالح المشتركة في السياسة، والاقتصاد، والثقافة وغيرها من القطاعات، حيث يمتلك كلا البلدين موقعاً جغرافياً محورياً، يربط بين قارات العالم، مما يُعزز فرص التعاون في مجالات التجارة والنقل، خاصة عبر مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها الصين عام 2013 والتي تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والبنية التحتية بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا عبر شبكة ضخمة من الطرق البرية والبحرية.
كما يشترك البلدان في توجهاتهما الإصلاحية الاقتصادية، حيث يسعى الأردن لجذب الاستثمارات وتطوير الاقتصاد الرقمي، بينما تعمل كازاخستان على تعزيز التنمية المستدامة والطاقة المتجددة، خاصة وأن الأردن يمتلك في مجال الطاقة احتياطات من اليورانيوم ويعمل على تطوير محطات نووية، بينما تعد كازاخستان من أكبر منتجي اليورانيوم عالمياً، مما يفتح المجال لتبادل الخبرات والتعاون في هذا القطاع الحيوي.
أما على الصعيدين الإقليمي والعالمي، فيلعب البلدان دوراً في تعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، حيث يستضيف الأردن ملايين اللاجئين من العديد من دول الجوار، ويدعم الحلول السلمية للنزاعات، بينما تسهم كازاخستان في محادثات السلام ونزع الأسلحة النووية. كما يتيح التنوع الثقافي والديني في البلدين فرصاُ لتبادل الخبرات في حوار الأديان والتعايش السلمي. أما في القطاعات التنموية، فيمكن للأردن الاستفادة من الخبرات الزراعية الكازاخستانية لتعزيز الأمن الغذائي، في حين يمكن لكازاخستان الاستفادة من التقنيات الأردنية في إدارة المياه والطاقة المتجددة، إضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز التعاون الحضري بين المدن الأردنية والكازاخستانية، مما يُسهم في تبادل أفضل الممارسات في التخطيط العمراني والنقل الذكي.
وقبل أن أختتم مقالتي أود القول بأن زيارة فخامة رئيس جمهورية كازاخستان قاسم جومارت توكاييف إلى الأردن على رأس وفد كبير يمثل العديد من القطاعات، وحرص جلالة الملك عبدالله الثاني على دفع مسيرة التعاون بين البلدين، تؤكد الرغبة المشتركة بين الزعيمين والبلدين والشعبين الشقيقين في تعزيز التعاون الاستراتيجي في مختلف القطاعات الحيوية، وفتح آفاق جديدة للشراكة الاقتصادية والاستثمارية والتنموية والثقافية والتكنولوجية والنووية بين البلدين، وبما يخدم مصالح الشعبين الصديقين، ويعزز مكانتهما في الشرق الأوسط ووسط آسيا والعالم. وفي هذا المجال أرى أنه من اللازم أن أشيد بجهود سفير جمهورية كازاخستان في الأردن السيد "طلعت شلدان باي" وطاقم السفارة على جهودهم المُكثّفة في العمل المتواصل مع مختلف الجهات والوزارات والمؤسسات الأردنية لإنجاح هذه الزيارة.
وأخيراً، يجب علي التأكيد على أن "النسر الذهبي" الكازاخستاني قد غادر الأردن، وهو يحمل في قلبه وفِكره ووجدانه ذكرياتٍ أردنية هاشمية، ممهورة بمحبة الشعب الأردني لإخيه شعب كازاخستان، مثلما حمل معه فخامة رئيس جمهورية كازاخستان قاسم جومارت توكاييف طموحات جلالة الملك عبدالله الثاني الذي جعل الأردن واحة أمن وسلام واطمئنان في منطقة الشرق الأوسط المُلتهبة.