تراجيديا كعكة الأردن الصفراء
د. أيوب أبودية
في قلب الصحراء الأردنية القاحلة، وتحت سماء زرقاء لا نهاية لها، كانت بلدة "رملان" الصغيرة تعيش على إيقاعها الهادئ البسيط. كانت الحياة تسير ببطء، لا يشغل أهل البلدة سوى بعض الزراعة والرعي والتجارة التقليدية. في يوم من الأيام، وصلت أخبار هزت أركان البلدة، قصة غامضة عن اكتشاف شيء غريب تحت الأرض، شيء قد يغير حياة الجميع.
أحد العمال المحليين، ويدعى "سعيد"، كان يعمل في إحدى الحفر التي كانت تستخرج الأحجار لبناء الطرق. بينما كان يحفر في الأرض، لاحظ وجود طبقة غريبة بلون أصفر باهت. بدافع الفضول، أخذ سعيد عينة من تلك المادة الغريبة إلى "الدكتور حسبالله"، أستاذ الجيولوجيا في الجامعة المجاورة. بعد عدة اختبارات وتحليلات، فوجئ الدكتور بأن المادة التي بين يديه ليست سوى مادة خام "الكعكة الصفراء".
بدأت الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم. أهالي رملان، الذين عاشوا لعقود على ما تجود به الأرض من محصول قليل، حلموا بالثروات التي سيجلبها هذا الاكتشاف. وشرع بعضهم في شراء الاف الدونمات على أمل ارتفاع أسعارها، وبدأت الوعود تتساقط من السماء؛ الوعود التي صاغتها الشركات الأجنبية والمسؤولون المحليون. فُتحت مكاتب أنيقة في البلدة، وتكررت المؤتمرات الفخمة، وتحدث الجميع عن حقبة جديدة، حقبة من الرفاهية والازدهار بحفنة من التراب الأصفر.
كانت "ليلى"، ابنة سعيد، تحلم دائماً بالسفر بعيداً عن البلدة الصغيرة والعيش في إحدى المدن الكبيرة. لكنها الآن، مع ظهور هذا "الكنز"، بدأت تتخيل قصورًا في الصحراء، حدائق مزدهرة تحيط بالبلدة، ومدارس ومستشفيات وملاعب رياضية تعيد الحياة إلى المنطقة. استثمر الجميع في هذا الحلم. وأرسلت الآليات الثقيلة لاستكشاف الموقع، وبدأت بعض الاستثمارات تتدفق، وكل ذلك وسط أحاديث عن العقود المليارية ومشاريع الطاقة والمياه القادمة بتمويل من الكعكة الصفراء.
لكن مع مرور الوقت، بدأت الأحلام تتلاشى شيئاً فشيئاً. فقد اكتشفت الفرق الهندسية بعد عدة سنوات من الحفر والدراسة والتهليل والمؤتمرات والتصريح الاعلامية تبين أن الكعكة الصفراء ليست بالتركيز الكافي من حبات الفراولة أو بالكمية التي كان الجميع يتوقعها. فالاحتياطات الاستراتيجية كانت محدودة جداً، ولم تكن كافية لتغذية مصانع لتكون مصدراً دائماً للثروة. بل الأنكى من ذلك، تبين أن عملية استخراج الكعكة وتصنيعها وتزيينها بالفراولة كانت معقدة ومكلفة جداً بفعل ما تم اكتشافه من كميات قليلة.
بدأت تلك الوعود الزاهية تتحول إلى رماد وغبار. اختفت الشركات الأجنبية، وأغلقت مكاتبها في البلدة، تاركة وراءها حطاماً من الآمال المحطمة. الدكتور حسبالله، الذي كان في البداية متفائلاً بأن الاكتشاف سيغير مستقبل البلدة، أدرك أن ما حدث كان مجرد وهم. وقف ذات يوم على أطراف البلدة ونظر إلى تلك الأرض الصفراء، وقال في نفسه: "لقد بنينا قصوراً في الهواء، وسقطت كلها في لحظة. لقد خذلنا أهل البلدة".
وما لبثت أن عادت الحياة في رملان إلى ما كانت عليه، وعاد الأهالي إلى زراعتهم البسيطة وحياتهم الهادئة. ولكن، هناك شيء قد تغير بالفعل. الجميع تعلم درساً قاسياً عن الحلم الذي كان يوماً ما قريباً جداً، ثم ابتعد عنهم مثل السراب. "ليلى" التي كانت تحلم بالسفر والثراء، أدركت أن الثروة ليست دائماً في الذهب أو الكعكة الصفراء، بل ربما تكمن في الأمان والطمأنينة التي كانت تتمتع بها بلدتها الصغيرة منذ البداية.
وفي النهاية، كانت تراجيديا "الكعكة الصفراء" درساً مهماً للجميع. درس عن الوهم الذي نعيشه حين نطارد الثروة الزائفة لأجل الزخرفة الاعلامية والشهرة الزائفة، وكيف أن الأحلام الكبيرة قد تتحول أحياناً إلى عبء ثقيل يحملنا نحو خيبة الأمل. والأهم من ذلك، كانت هذه التراجيديا تذكيراً بأن الثروات الحقيقية غالباً ما تكون أمام أعيننا، لكننا نبحث عنها في مكان آخر، بعيداً، دون أن ندرك قيمتها الحقيقية حتى نفقدها. فالحمدلله على نعمة الأمن والأمان وكل عام وأنتم بخير.