رواية «المسافرون الإنجليز» لماثيو نيل إعادة النظر في السردية الغربية للاستعمار الغربي للعالم
د. أسامة المجالي
صدرت ترجمة هذه الرواية عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي، في جزأين، وأكثر من 600 صفحة. وتعتبر من أهم ما صدر مؤخراً كرواية تاريخية في الأدب الإنجليزي المعاصر، وتقدم تجربة فريدة في السرد التاريخي الحديث، حيث إنها تقدم قراءةً معاصرة وإبداعية تتجاوز الصيغة الرسمية لهذا التاريخ، وتعيد تشكيل السردية السائدة عن التوسع الغربي الاستعماري والاستيطاني الإحلالي للعالم الجديد بشكله الحالي، ليرويه هذه المرّة الطرف المهمّش والمقموع، حيث يمنحه ماثيو نيل صوتاً وشكلاً ومحتوىً، كما إنه يمزج ما بين الرواية الرسمية وما حدث فعلاً، ليملأ الفراغات والمساحات المظلمة في هذا التاريخ، عن طريق إنطاق السكان الأصليين الضعفاء والمهمشين؛ كي يرووا جانبهم من التاريخ في تلك الأصقاع النائية والبعيدة.
ماثيو نيل كاتب وروائي بريطاني من مواليد لندن عام ١٩٦٠، درس التاريخ الحديث في جامعة أوكسفورد، وتخرج فيها في ١٩٨٢. له العديد من الكتب والروايات والمجموعات القصصية، كما إنه حائز على عدة جوائز أدبية، ويعتبر من أهم كتّاب الرواية التاريخية المعاصرين في إنجلترا، حيث تعبّر رواياته عن رؤية نقدية جريئة للتاريخ.
روايته الأولى «ولائم مومس» صدرت في ١٩٨٧، وأعيد إصدارها في ٢٠٠٢ بعنوان «السيد الأجنبي»، وكتبها في أثناء إقامته في اليابان، وتعبّر عن حساسية الكاتب الخاصة تجاه التعدد ومعرفة الآخر بالتجربة والدراسة وليس بالتلقين والتقليد. أما روايته الثانية «داخل مملكة روز» التي صدرت في ١٩٨٩، فتدور أحداثها في لندن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ثم رواية «التايمز العذب» في ١٩٩٢، ورواية «عندما كنا رومان» في ٢٠٠٧. ووصلت روايته هذه «المسافرون الإنجليز» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية في ٢٠٠٠.
قرأت هذه الرواية مؤخراً، ولفتني السخرية السوداء الهائلة في ثناياها، وقد تصادف أن الأحداث في غزة وفلسطين كانت تتصدر نشرات الأخبار في كل أنحاء العالم، كانت أخبار الدم والحقد والإجرام الصهيوني تطفح من كل الشاشات على مدار الساعة. وبينما كانت الطائرات الحربية تلقي بأطنان من القنابل والمتفجرات على رؤوس أهلنا في غزة، وتدمر على نحو منهجي كل مظاهر الحياة في القطاع، كان الساسة والبرلمانيون والصحفيون في دولة الاحتلال الصهيوني يفجّرون ويمزقون بتصريحاتهم العنصرية والاستعلائية ما تبقّى من القناع عن وجه هذه الدولة العنصرية، التي تحسب نفسها في منزلة فوق منزلة البشر العاديين!!! بينما أفكار نخبها وقادتها السياسيين والعسكريين لا تعدو أن تكون أخلاق الطغاة في أعماق التاريخ المظلم السحيق، يوم كان الجبابرة الطغاة يمرّون على المدن يحاصرونها ثم يهدمونها فوق رؤوس أهلها، ثم يبنون من جماجمهم تلالاً أمام الجدران المهدّمة والأذرع المقّطعة والبطون المبقورة للآلاف من السكان الآمنين والنساء والأطفال، الذين لم يشتركوا في أي قتال أو حتى يلقوا بحجر في المعركة الدائرة. عقاب جماعي وتطهير عرقي يستهدف السكان الفلسطينيين وتجويعهم وهدم بيوتهم ومستشفياتهم ومساجدهم ومدارسهم وتجريف طرقهم ونبش مقابرهم، بينما يتم الإعلان دونما توقف عن خطط طردهم من أرضهم وسوقهم بالقصف والدبابات نحو الحدود الجنوبية لقطاع غزة إلى صحراء سيناء لاقتلاعهم من وطنهم وإلقائهم خلف الحدود والمنافي، وهجوم كلامي من الساسة وعلى كل قناة ووسيلة إعلام بكل صلف ووقاحة دونما أي حياء أو إنسانية، مما أعادني لمحاولة فهم هذا الفصام المرعب عن كل القيم الإنسانية المعاصرة التي تدعو للحرية والكرامة والعيش الكريم للبشر في أوطانهم، هذه المبادئ التي طالما نادى بها الغرب وصدّع بها رؤوسنا عبر السنين، ثم ها هو نفس هذا الغرب في لحظة تاريخية فارقة، يتصرف بكل تحيّز ودعم لا محدود للسردية الاستيطانية الإحلالية الاستعلائية الكاذبة، محاولاً بشكل متعمد ومستمر طمس السردية الحقيقية لأصحاب الأرض الشرعيين المقموعين والمطاردين والمضطهدين عبر الزمن، فوجدت في هذه الرواية لهذا الكاتب الفذ ما يشرح هذا النمط المتكرر، وأن ما يقوم به الصهاينة ما هو إلا تكرار لما قام به المستعمرون الأوائل؛ الإنجليز والإسبان والأمريكان والهولنديون والألمان والبرتغاليون والفرنسيون والبلجيكيون وسواهم، في كل البلاد التي استعمروها واحتلوها عبر مئات السنين من الضمّ والإحلال والإبادة والإنكار والإلغاء الإنساني، وتجريد الضحايا من السكان الأصليين من إنسانيتهم وقيمهم، حتى تسهُل عملية محوهم وإبادتهم، وإحلال المستعمرين القادمين مكانهم بلا أي تأنيب للضمير، فالرواية تقدم عبر خمسة عشر فصلاً وعلى شكل شهادات يقدمها أبطالها بلسان كل منهم من كافة الأطراف، حيث يدلي كلاً منهم بدلوه فيما يحدث من أحداث تاريخية، بل إن الكاتب يلجأ أحياناً إلى وثائق تاريخية رسمية تتعلق بتلك الحقبة من الزمن.
تدور أحداث الرواية حول سفينة تهريب، تذهب بظروف غريبة عجيبة يسردها الكاتب لاستكشاف إقليم تسمانيا في أستراليا لاستيطانها في القرن التاسع عشر. يقود السفينة قبطان مهرّب، وقسٌ مأزوم، وطبيب عنصري، ومجموعة من البحارة القراصنة وقطّاع الطرق، رويداً رويداً بينما تتوالى أحداث الرواية، تسير السفينة في مجاهل المحيطات الرهيبة، متجهة من بلاد حضارة المستعمِر المأزومة إلى بلاد حضارة المستعمَر المبادة، وهنا تتبدى الصورة بوضوح أكثر، عندما يتفكك كل شيء وينهار ليكشف عن زيفه وبطلانه، من الفكر اللاهوتي الذي وظفته المؤسسة السياسية الحاكمة لتسويق أيدولوجيا التفوق الأخلاقي والعرقي، كمسوغ للفعل الاستعماري في استيطان قارة أستراليا وغيرها من المستعمرات، بالإضافة إلى فساد كامل المنظومة الفكرية والتعليمية والسياسية التي قامت عليها الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس. كل ذلك ينهار في الرواية، ويتحول إلى خرافات وأساطير وأوهام، إلى أن يتحطم تماماً كما تحطمت السفينة نفسها في طريق عودتها إلى الوطن الأم. ويقدم الكاتب الماهر كل ذلك بحس تهكمي ساخر وسوداوي في الوقت نفسه؛ كي ينزع عنه الشرعية، ويضعه في سياق حق الإنسان في التفكير والنقد، ورفض الاستسلام أمام محاولات الإبادة المستمرة. التطهير العرقي كان هدف ذلك المشروع الاستعماري بإبادة الآخر وإلغائه إذا استطاعوا، أو استبعاده تماماً في حالة فشلوا في تحقيق الإبادة، تكرر ذلك النموذج في ناميبيا على يد الألمان، وفي الكونغو على يد البلجيكيين، وفي سائر إفريقيا على يد الفرنسيين، وفي الأمريكيتين على يد الإنجليز والإسبان والأمريكيين أنفسهم، وكذلك في أستراليا وأندونيسيا وبقية المستعمرات. والآن يحاول الصهاينة ويسيرون على خطى أسلافهم المستعمرين بكل بجاحة وتوحش وعدوانية غير عابئين بالكاميرات التي تصورهم وتنقل إجرامهم على الهواء مباشرة، وتصور أيضاً خيبتهم وفشلهم وكذبهم سواءً بسواء.