2024-11-26 - الثلاثاء
banner
كتّاب جهينة
banner

الفُقاعات القادمة والسياسات المنشودة حفاظاً على الأمن المجتمعي

{clean_title}
جهينة نيوز -
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني/   أستاذ مشارك سياسات عامة

كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

في ظل سياسات تثبيت أسعار الصرف إلى الدولار، وفي إطار توجُّه كثير من الدول حول العالم، إلى الهرولة السريعة نحو سياسات موازية لما يقوم به البنك الفيدرالي الأمريكي من رفع لأسعار الفائدة، حفظاً على قوة العملة، وهروباً من ضغوط حالة عدم اليقين التي يواجهها الدولار، خاصة بعد تفاقم إرهاصات الحرب الروسية الأوكروانية على مستوى الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الأوروبي بشكل خاص، فقد بات من الواضح أنَّ الدول غير المحورية في التجارة الدولية حول العالم؛ أي نحو 80% من دول العالم، ستعاني، وهي تسعى نحو الحفاظ على سعر صرف ثابت أمام الدولار، كثيراً في مسألة الحفاظ على القوة الشرائية لعملاتها والقوة الشرائية للدخول المحدودة لديها، وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية المستوردة، وما يشكِّله ذلك من ضغوط تضخمية، خاصة أنَّ جلَّ ما تفعله تلك الاقتصادات هو رفع أسعار الفائدة المحلية، ما ينعكس مباشرة على مزيد من الضغوط التضخمية، مؤجِّجَة بذلك الأثر المستورد للتضخُّم، والناتج أصلاً عن ارتفاع الأسعار العالمية. الشاهد هنا أنَّ العالم يمرُّ بمرحلة معقدة من الإرهاصات العالمية التي تترافق عادة مع أمرين؛ أزمة عالمية، كتلك التي نشهدها اليوم بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، وارتدادات التضخُّم  الركودي الذي نشأ أساساً كمجرد تضخم سيولة وطلب زائد بفعل سياسات نقدية توسعية إبان أوج التعامل مع جائحة كورونا، ومن ثمّ تفاقم بركود فرضته التوقفات الطويلة غير المبررة التي نتجت عن تعطُّل العمل أو انعدامه في العديد من الموانئ العالمية، وفي العديد من الوسائل اللوجستية للوصول إلى الأسواق براً وبحراً وجواً. المحصلة أننا أمام صورة ثلاثية الأبعاد؛ البعد الأول تضخٌّمي، والبعد الثاني ركودي، والبعد الثالث تخبُّط سياسات ناتجة عن تخبُّط في إدارة الأزمات العالمية. وهي أبعاد ستؤدي إلى تكميش مستوى الطلب الكلي للفئات المهمشة، من ذوي الدخل المحدود والمتوسط من جهة، إلا أنها أيضاً ستؤدي إلى تسخين الاقتصاد المالي عبر سوق الأسهم والسندات والعقارات، ورؤس الأموال المغامرة من جهة أخرى. بين اليوم والعام 2030، ستتضح صورة جديدة من صور الفُقاعات المالية، وقد بدأت بعض الأسواق المالية العالمية في إظهارها، في أسواق الأسهم والسندات، كما بدأت الصورة تنجلي عن فوائض مالية ناتجة عن تراكم أرصدة بيع السلع الأساسية والنفط بمشتقاته وخامه، ومن الواضح أنَّ هذه ستتجه نحو تكوين فقاعات مالية كبيرة في سوق العقار، وسوق الأسهم، والسوق الحديث الناشئ عن العملات المُشفّرة، ولا أقول الرقمية، وسوق الأصول الافتراضية، وخاصة الأصول التي سيتم تداولها في عالم الميتافيرس. والنتيجة، أنَّ العالم الذي كان يسعى للتعامل مع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر 2030، حسب وثيقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، بمحو الجوع، وقهر الفقر، وتشكيل الشراكة الفاعلة، سيواجه تركيبة جديدة غير مسبوقة من فقاعات عالمية، حقيقية وافتراضية، في مجالات العقار والأسهم والعملات المُشفرة الوهمية، قد تنتهي بدوامة جديدة من  ظهورٍ لطبقات فاحشة الغناء، وتوسُّع وتمدُّد في الطبقات المنغمسة في الفقر والجوع. والمعضلة، بل واللغز الأكبر، أمام صنّاع القرار العالمي ستكون في كيفية التعامل مع تدني القوة الشرائية لشريحة كبيرة من أصحاب الدخول المتوسطة والمتدنية، وتوسُّع قاعدة الباحثين عن العمل في سوق انتظارٍ لوظيفة لن تأتي بسبب هيكلية البطالة التي يشهدها العالم، فما هو متاح من أجيال، وما يتم تخريجه من قوة عاملة، هم مجرد حملة شهادات غير مؤهلين بالمهارات المطلوبة لمتطلبات سوق العمل الآني والمستقبلي. هذه الصورة المفزعة في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية تتطلب مخططين وصنّاع قرار من نوع غير تقليدي، وقد أقول غير موجودة حالياً في معظم الدول النامية. تطورات الاقتصاد العالمي، واستشراف مستقبل تطوره يحتِّم النظر إلى منظومة جديدة من أصحاب القرار، يتطلَّب وجودهم وإدخالهم إلى مطابخ التخطيط والاستشراف المستقبلي وصنع القرار خلال السنوات المتبقية من هذا العقد، حتى لا تتحول الإرهاصات المشار إليها أعلاه إلى مُهدِّدات للأمن الاقتصادي والمجتمعي في العديد من دول العالم. العالم يتجه اليوم نحو تقسيم جديد يُحتِّم التوجُّه نحو سياسات توسعية اقتصادية مختلفة في دول العالم أجمع، وفي تقسيم العمل بينها. وتتمثَّل السياسة الأولى في إعادة النظر كلياً بمناهج التعليم، وبالمهارات المطلوب زرعها في الأجيال من الصفوف المدرسية الأولى، إن لم نقل من صفوف ما قبل المدرسة، بما يؤدي إلى ظهور أجيال قادرة على خلق وظائفها بنفسها في السوق العالمي، وليس في انتظار التوظيف والتعيين من قِبَل الحكومات، أوحتى المؤسَّسات الخاصة. والسياسة الثانية تتمثَّل في إعادة النظر في كيفية استغلال الموارد المتاحة، وخاصة ما يخدم منها مجال الزراعة، مع التوجُّه الفوري نحو الزراعة الرأسية المعتمدة على التقنيات الحديثة والتي تُمكِّن الدول من إنتاج معظم المحاصيل الزراعية، بكلفة أقل، وباحتياجات مائية أوفر، وفي مواسم زراعية متنوعة، للوصول إلى أفضل تعامل ممكن مع الفجوة الغذائية القائمة والمستقبلية. السياسة الثالثة تتمثَّل في تكوين الكتل الاقتصادية والاجتماعية الإقليمية، الصغيرة والمتوسطة، على أن تقوم تلك الكتل على تكاميلية المصالح التجارية، السلعية والخدمية، وبما يساعد الدول على تحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الإقليمي، وخاصة في مجالات الغذاء، والدواء، والخدمات اللوجستية، وجميع ما يخدم استمرار سلاسل التزويد، وبالأخص النقل والاتصالات والمعرفة التقنية والعلمية والبحثية. السياسة الرابعة والمهمة تتمثَّل في النزوع إلى سياسات تسويات مالية مختلطة بين التبادل السلعي والتسويات المالية، وخاصة في مجالات الروزنامات الزراعية، والتبادل المالي، ضمن آليات فض نزاعات تكفل تحقيق المصالح من جهة، وعدم النزوع إلى الاحتيال العالمي، أو الافتراضي من جهة أخرى. والسياسة الخامسة تتمثَّل في إعادة النظر كلياً في سياسات المالية العامة الوطنية ضمن ثلاثة أبعاد أساسية؛ البعد الأول ضرورة إنهاء كافة التشوهات في الدعم المالي، وتوجيهه حقيقة لمستحقيه، مع التركيز على الدعم الموجَّه لتحويل الطبقات من متلقية للدعم المالي المباشر، إلى متلقية للدعم المساند للإنتاج، بما فيها الإنتاج العائلي. والبعد الثاني، إعادة النظر في كافة قنوات الإنفاق المالي العام، مع دراسة نوعية تؤدي إلى هندسة وطنية لإجراءات العمل العام، ذلك أنَّ كثيراً من الإجراءات تُمثِّل نفقاتٍ مالية مستترة يجب التخلُّص منها، وفي الوقت نفسه اعتماد أدلة عمل SOPs لكافة أوجه العمل العام، بما يهدف إلى رفع كفاءة تأدية الخدمة العامة من جهة، وتخفيض كلفها من جهة أخرى. والبعد الثالث والأخير، التوجُّه بشكل نوعي نحو تعهيد Outsourcing الكثير من الخدمات العامة للقطاع الخاص، ضمن شفافية وحاكمية ورقابة ومساءلة وتقييم دائم، ووفق أكثر الوسائل كفاءة، وأفضل التطبيقات العالمية، بما يكفل تحقيق الوصول إلى الخدمات العامة بشكل سريع وكفؤ، من جهة، وبكلفة مالية مباشرة وغير مباشرة منخفضة ونوعية، من جهة ثانية. المعطيات والسياسات السابقة ستؤدي بالضرورة إلى تحريك عجلة أي اقتصاد، وإلى خلق وظائف مباشرة وغير مباشرة، وفي كافة القطاعات، شريطة أن تكون السياسات المحلية مُحفِّزة للعمل، وللاستثمار، ومحرِّكة ومُنشِّطة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومساندة للإبداع والابتكار والتميُّز، وقائمة على المساءلة والنزاهة والعدالة والشفافية وحسن استغلال الموارد، وعلى سياسيين يؤمنون بالعمل العام بعيداً عن تضارب المصالح وتداخل الصلاحيات، ويخطِّطون لمستقبل الأجيال الحالية والقادمة بموضوعية عالية.
تابعو جهينة نيوز على google news
 
Email : info [at] johinanews.com
 
تصميم و تطوير