banner
منوعات و غرائب
banner

تعدد الأصوات في رواية العاشق للراحل غسان كنفاني

{clean_title}
جهينة نيوز -

قراءة بديعة النعيمي

تعتبر رواية العاشق للراحل غسان كنفاني إحدى نماذج الأدب الفلسطيني المقاوم وهذا النوع له خصوصيته وحساسيته البالغة بسبب المخاضات الشرسة التي مرّ بها خلال عقود. ولا يخفى على أحد المعطيات التي أثرت في إنتاج مثل هذا العمل حيث ضياع أرض وتشرد أهل وهضم حقوق.

والقاريء لرواية العاشق يستطيع أن يلاحظ بأن غسان كنفاني قد تجاوز الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد (المونولوجية) إلى الرواية ذات الأصوات المتعددة (البوليفينية) التي لم تظهر حسب ما رآه المنظر الروسي ميخائيل باختين إلا مع كتابات دويستوفسكي. ويقوم هذا النوع على تعدد الأصوات والشخصيات والمواقف والنتيجة هي تحرر تلك العناصر من سلطة الرواي (السارد) المطلق وهنا تمنح الرواية متعددة الأصوات شخوصها التي تتصارع فيما بينها فكريا وأيديولوجيا الاستقلالية في التعبير عن مواقفهم بكل حرية وصراحة وحتى لو كانت هذه الآراء مخالفة لرأي الكاتب. لذلك فهي تحوي أنماطا من الوعي المختلف عن وعي الكاتب وأيديولوجيته الشخصية. فنجد فيها ما الوعي السلبي والآخر الإيجابي وما هو ممكن من حيث تصوراته المستقبلية الإيجابية المبنية على تغيير الواقع واستبداله بواقع أفضل.

 وقد يتمثل الوعي السلبي في رواية العاشق بشخصيتي الشيخ سلمان والحاج عباس الإقطاعيتين والشخصية الإقطاعية كما يصفها السارد شخصية تمتلك الأرض والناس وهي مجرد ذيل تابع للإنتداب البريطاني الحريصة على إرضاءه مقابل الحفاظ على ممتلكاتهم تلك ففي ص23 على لسان الشيخ سلمان ( سيعتقد الإنجليز أنني كنت أخبئه هنا..من سيصدق أن الشيخ سلمان لم يكن يعرف؟).

أما الوعي الإيجابي فهو المتمثل بالشخصيات مثل زيد الذي التحق بالشيخ القسام للدفاع عن فلسطين من خلال ثورة 1936 ولو أن السارد يرفض ما حدث قبل التسلح الكامل لكي لا تذهب الثورة وجهودها سدى ففي ص 42 على لسان الحاج عباس ( لقد التحق زيد بالشيخ القسام في تلال يعبد مجذوبا بالكلمة القصيرة الكافية التي كان يقولها ذلك الرجل:موتوا شهداء فمات زيد وضاعت أخبار زوجته وظلت زينب في بيتنا).

أما الوعي الممكن فقد مثله السارد بأحد أصوات الرواية ويمتلك عدة أسماء فعبد الكريم في يافا وحسنين في ترشيحا وقاسم في الغابشية والسجين. رقم 362 في سجن عكا وهذه الشخصية المتمثلة بأحد أبطال الرواية والذي لاحقه البوليس البريطاني بقيادة الكابتن الإنجليزي (بلاك) من يافا إلى ترشيحا إلى الغابشية ربما بتنقلها وهروبها أرادت تغيير الواقع إلى واقع أفضل ففي ص22 على لسان قاسم عن الكابتن بلاك ( وقد عطلت أنا بلا شك رتبته ثلاث سنوات كبيرة بالإضافة إلى المرارة التي سببتها له طوال ذلك الوقت الطويل).

وقد نجح غسان كنفاني من خلال نصه إدراج الآراء المختلفة وإن كانت متناقضة أن يكون محايدا وموضوعيا. لكننا نراه أحيانا قليلة يلجأ إلى التعبير عن رفضه لبعض الأمور عن طريق أصوات الرواية ففي ص43 على لسان حسنين ترشيحا يقول عن الحاج عباس ( وأخذت أنظر إلى الحاج عباس جالسا وراء سبحته المصنوعة من بزر الزيتون) فكيف يكون إقطاعيا يتحكم بالعباد وبلقمة عيشهم في حين يمسك مسبحته فيتخفى خلفها ليظهر تدينه ويمارس إقطاعيته؟.

كما أننا نجد بأن الرواية متعددة الأصوات قد نتجت من جماع أفكار متعارضة منها ومتناقضة جدلا فالمهم هي الأفكار وليس الأبطال والفكرة في رواية العاشق هي رفض الاحتلال الخارجي والإقطاع الداخلي المتمثل بالشيخ سلمان والحاج عباس.
كما أن كل شخصية في الرواية متعددة الأصوات لها خصوصيتها في سرد الحدث الروائي بأسلوبه الخاص بعيدة عن سلطة المؤلف وهذا ما يلاحظه الدارس لرواية العاشق فالبطل عبد الكريم يتكلم بأسلوبه وقناعاته وكذلك الشيخ سلمان والحاج عباس والكابتن بلاك وحتى الأبطال الثانويين تحدثوا بأسلوبهم وأصواتهم الخاصة.

كما نجد تعدد الضمائر فنجد السارد قد لجأ إلى استخدام ضمائر مثل هو هي أنا أنتَ أنتِ .

وهناك تقنيات أخرى تستخدم في الرواية متعددة الأصوات مثل لغة الحوار ص19( فقال للرجل الذي كان يقف إلى جوار العربة: دع العاشق يتسلم الحمير)
كما تعددت أساليب الرواية مثل استخدامه التهجين وهو أن تستحضر الشخصية الحاضرة الشخصية الغائبة مثل ما جاء في ص12 على لسان الشيخ سلمان( سألته إن كان معجبا بالفرس فهز رأسه وربت على كتفها ونظر في عينيها وابتسم عندها سألته عن اسمه فقال: أنا قاسم ).

كما نلاحظ أن الكاتب استخدم أسلوب الأسلبة وهو يتجسد في الحوار الداخلي للشخص مثل ما جاء في ص17 ( سمعت صوتا ثالثا يقول لي: يا عاشق، وعرفت فورا أنني فقدت الشيء الأخير الذي حملته من تلال ترشيحا) 
كما نجده يلجأ إلى استخدام أسلوب المحاكاة الساخرة مثلما جاء في ص43 على لسان الكابتن بلاك للميجور ( إنك كي تقبض على عبد الكريم عليك أولا ان تلقي القبض على الأرض ).

كما استخدم لغة الجسد ص14 ( أحسست بالنار تسلخ راحتي قدمي وكدت أسمع نزيز الدم ينطفئ بصوت مسموع تحت بدني وفجأة رأيته ينظر إلي بعينين مفتوحتين على وسعهما) .

وأخير نستطيع القول بأن غسان كنفاني أبدع في توظيف الرواية متعددة الأصوات لإيصال رسالته للقارئ في عمله العاشق الذي اعتبره البعض بأنه من الروايات غير المكتملة للكاتب.
تابعو جهينة نيوز على google news