بهدوء..حتى لا نفقد البوصلة
جهينة نيوز -المهندس عامر الحباشنة
ما أن أعلنت الحكومة عن قانونها المستعجل للضربية، عبر الإعلان عنه وارساله لمجلس النواب في توقيت فض الدورة البرلمانية، حتى بادرت النقابات عبر مجلس النقباء للتنبيه لخطورة مثل تلك الخطوة الحكومية المستعجلة، باعداد مسودة القانون دون مشاورات مع اي من الجهات ذات العلاقة من القطاعات الوطنية، وحددت هدفها الأساس بسحب القانون المقترح لاجراء حوارات حقيقية مع كافة القطاعات، وهذا مطلب نابع من بعدين، الأول تعلق بآلية إعداد القانون، والثانية الخوف من الضغط الحكومي لتمرير القانون عبر المجلس النيابي كما مررت قوانين أخرى مرفوضة شعبيا، ولما لحساسية القانون واثاره المباشرة وغير المباشرة على المواطن المنهك اقتصاديا واليأس من تطبيق منظومة الإصلاحات الاقتصادية طوال عقود، فقد دعت النقابات لاعتصام وطني لكافة القطاعات، وهو ما تم فعلا في يوم الأربعاء المشهود وغير المسبوق، وخاصة بانضمام قطاعات زراعية وتجارية وصناعية للإضراب، فما حدث يوم الأربعاء مشهد قل مثيله من حيث التفاعل والتجاوب، خاصة انه جاء بدعوة من النقابات لامست عصب وغضب وضمير الشارع، وهذا بالتأكيد فاجأ الجميع حكومة وحتى النقابات، وبدلا من التجاوب مع ردة فعل الشارع ومطلب النقباء بسحب القانون، تذرعت الحكومة بعدم دستورية سحب القانون وهو ما ثبت عدم صحته، والهدف كان رمي الكرة في مرمى مجلس النواب بما يحمله من انطباعات لدى المواطنين، ومما زاد الطين بله، أن قامت الحكومة برفع أسعار المشتقات النفطية في اليوم التالي، وكأنها تقول أنني لم أر ولم أسمع عما حصل في الأربعاء المشهود، وهي بذلك قصدت بوعي وبتدبير لاستفزاز الشارع المستفز أصلا، والذي تجاوب مع دعوة النقابات للإضراب، في محاولة لحرف الأنظار عن موعد واستحقاق الأربعاء اللاحق ، حيث اعلن بعد نجاح إضراب الأربعاء الأول بأن امام الحكومة مهلة أسبوع، إما لسحب القانون واخضاعه للنقاش أو مواجهة المطلب الجديد بالرحيل، وهنا تفتق العقل الحكومي على فكرة رفع الأسعار في اليوم التالي للإضراب.
تلك الخطوة أدت إلى استفزاز الجميع مما دعاها للخروج للشارع في كافة المحافظات والعاصمة، معلنة بان الرد هو برحيل الحكومة، وهو المطلب النقابي الذي كان معدا إعلانه الأربعاء التالي، وهذا أمر معروفة أهدافه وتختصر بخطوة حرق المراحل واستباق الحدث، مستهدفة حرف الأنظار عما ينتظرها من وعد النقابات، وبنفس التوقيت طلبت لقاء النقابات للحوار المطلوب أصلا نقابيا، لكن ليس حوارا بقدر ما هو إبلاغ موقف لا تراجع عنه، وأيضا هدفه خلط الأوراق وبيان ان هناك شقا بين سقف الشارع الذي ارتفعت مطالبه وبين طلب النقباء للحوار وسحب القانون.
وهنا مارست الحكومة عبر كثير من الأدوات حملة تشويه وتشتيت وتشكيك بالموقف النقابي عبرت عنه وسائل اعلامها المسيطر عليه، ومع استفحال الأزمة وازدياد الحراك الشعبي، رضخت الحكومة لمطلب الحوار، ولكن هذه المرة من بوابة المجلس النيابي، وهو ما ظهر من مبادرة النواب والدعوة للحوار، وهذا ما كان يمكن رفضه من النقابيين الذي تصرفوا بمصداقية أمام فخ الحكومة، فكان ان انعقد اللقاء النيابي النقابي الحكومي على وقع تفاعل حراك الشارع، وفي الحقيقة لم يحدث حوار بقدر ما كان إبلاغا من الحكومة بأنها لا خيار لها سوى تنفيذ متطلبات البنك الدولي، مع تقديم طعم يختص بموضوع نظام الخدمة المدنية، لذلك خرج المجتمعون باتفاق ان لا يتفقوا، تزامن مع ذلك حملة معده للايحاء بالإنفاق وبان النقباء تراجعوا عن سحب القانون عبر تعهدات مجلس النواب وهو ما لم يحدث فعلا، لكن الإستثمار الحكومي في اللقاء نجح في خطته إعلاميا ليؤثر على استحقاق الأربعاء، حيث بدأ موقف النقباء متأخرا جدآ عن مطالب الشارع برحيل الحكومة، وكأن النقباء لم يضعوا هذا الأمر بحسبانهم كخطوة لاحقه، استعجلتها الحكومة لخدمة أهدافها، فلم تفلح كل تصريحات النقباء مجتمعين ومنفردين في إقناع الجمهور عموما وحتى جزء من جمهورها بأنها لم تتراجع عن مطالبها.
وهنا، ورغم وعي النقباء لحجم التحدي أمامهم منذ البداية، ووعيهم بأن تراجع الحكومة سابقة لا يمكن قبولها عبر الحوار، ومع كافة أنواع الضغط والتشويه الذي مورس من قبل الحكومة وأنصار برنامجها، وهذا كان متوقعا، ولكن أن يصل الأمر لحد القبول بكل هذا التصعيد وهذا الخطر من الانحراف للمجهول، فقط لأنها ببساطة ترفض أن تتراجع وأن تسجل ما تراه انتصارا لإرادة الشعب، وهو ما لا تحتمله برأيها.
والآن، هل تستطيع الحكومة تجاوز ما احدثته من تدهور واستفزاز للشارع غير مسبوق منذ بدايات الربيع العربي، أم أنها تغمض عينها والرهان على الزمن، بالترافق مع حملة شق لجسر الثقة الذي تشكل بين النقابات والشعب، ففي كل الأحوال فإن الشارع تجاوز مطلب النقابات التي ماطلت به الحكومة عبر حالة الاتكاء على حرص وانتماء المتحركين في الساحات والنقابات ومن خلفهم اجهزة الدولة الأمنية، حرصهم جميعا على الاستقرار والبعد عن الفوضى، وهذا امر تستثمر به الحكومة جيدا الان وخلال تجاربها السابقة.
مع كل ذلك، ومع إدراكنا لأسباب الأزمة الناتج عن قصور الإدارة الحكومية وانفصالها عن الواقع، وكذلك حجم التأثيرات الإقليمية الضاغطة على الأردن لصالح برامج إقليمية يصعب تلبيتها في الظروف الطبيعية، إلا أن ذلك لا يعفي الحكومة من مسؤوليتها عن الانزلاق ودفع الشارع للاحتجاج، وهي من يتحمل تداعياته بكل آثارها، دون تحميل النقابات هذه المسؤولية، وهي التي لم تتغير مطالبها الأساسية بسحب القانون وفتح حوار مع المختصين من المؤسسات الوطنية حوله..
في النهاية، النقابات المهنية هي من اضاء شعلة ماراثون التغيير ومن بعدها التف الشعب حول مصالحة وتجاوزها في سقف مطالبه، ومهما كانت النتائج، فإن شعورا بات متفقا عليه بأن هذه الحكومة وبنهجها الإقتصادي أصبحت جزءا من المشكلة مهما حاولت نفي ذلك. والنقابيون ملتحمون مع جمهورهم في مطالبه التي تجاوزت مطالبهم الأولى، والأمر يحتاج لتدخل العقلاء من كل الأطراف والاطياف لتخفيف الاحتقان ووضع برنامج وطني يواجه التحديات.